للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آفة المجازفة في إطلاق الكلام]

الآفة الثانية: الكلام الذي يُطلق جزافاً، والعبارات البراقة، والكلمات الرنانة، التي يلفظ بها الإنسان، لكي تسجل له في سطور التاريخ، والله إنها تُسجل، ولكن هل يجدها في صحائف حسناته أم في صحائف سيئاته؟ وأقولها وبكل صراحة، وأوجه من هذا المنبر كلمةً إلى كل صحفي من الصحفيين، وكل صاحب عنوانٍ من العناوين، أن يتقي الله في العبارة التي تُنشر عنه، وكل كلمةٍ يكتبها في أسطر مقاله، أقول لنفسي، وأقول لهم، وأقول لكم: اتقوا الله فيما تكتبون، فإن من علم أن كلامه من عمله، لم يسره أن يتكلم إلا بما يطمع أن يراه في موازين حسناته:

وما من كاتب إلا سيفنى ويُبقي الدهر ما كتبت يداهُ

فلا تكتب بخطك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراهُ

مما قرأت في عددٍ من المجلات والجرائد، كاتباً تكلم عن أهداف أحد اللاعبين فقال: أهداف اللاعب الفلاني، تلك التي تجعل الأعمى يُبصر، والأبكم يتكلم، عجبتُ لهذا اللاعب! وعجبتُ في الحقيقة لهذا المتكلم، فقد لا يكون للاعب ذنب!! متى كان هذا اللاعب عيسى بن مريم؟! يبرئ الأكمه والأبرص بأهدافٍ يسجلها! أما يتقي الله هذا الذي يقول هذا الكلام! أهدافٌ تجعل الأعمى يبصر! والأبكم يتكلم! والأصم ينقلب سمعياً! أين تريد أن ترى هذه الكلمة يا عبد الله؟! تريد أن تراها في صفحة الحسنات، أم في صفحة السيئات؟! اتقوا الله يا معاشر الكتاب! ويا معاشر الصحفيين! وهذه نصيحة ومحبة، هذا نداءٌ من القلب إلى القلب، ومن الروح إلى الروح، حتى لا تُفسر أنها فضيحةٌ أو تشهير.

معاشر المؤمنين! وآخر يقول: من تقرب إلى نادينا شبراً نتقرب إليه ذراعاً!! عجباً! ولن أجزم بسوء قصد قائله، فإن قصد بهذه العبارة شيئاً من اللفظ والبيان الذي يتكلم به، بعيداً عن قصد الحديث، الذي جاء فيه أن الله جل وعلا، يفرح بتوبة عبده: (فلئن تقرب إليه العبد شبراً تقرب الله إليه ذراعاً) إن كان بعيداً عن قصد الحديث، فنقول: خير لك أن تعبر بشيءٍ بعيدٍ عن النصوص والحروف والرسوم التي جاء فيها البيان الرباني والنبوي والشرعي.

فلنرفع مقام الشريعة، ولنرفع مقام الأحاديث، ولنرفع مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قصد المتكلم، أنه يُحاكي قول الله: من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، فهي والله من الكلمات التي تهوي بصاحبها، وكم سمعنا فلتاتٍ جرت على الألسنة! والله لو جلستُ مجلساً فقام واحدٌ يضحك، أو يتهكم، أو يستهزئ أو يصوغ شيئاً من عبارات الدعابة والمزاح، بنص مرسومٍ من المراسيم لاعترضت عليه، حتى لا تُصبح النصوص والمقالات عرضة الهزال والعبث!! فكيف نسكت أن يُتكلم بشيءٍ فيه محاكاةٌ في باب هزلٍ من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟!! ومما يجري على الألسنة، قول كثيرٍ من الموظفين عن مديره العام حينما يُسأل عن صلاحياته، أو عن تصرفاته، فيقول: فلان لا يُسأل عما يفعل، تعالى الله تعالى الله؛ أن يشبه الضعفاء المساكين في تصرفاتهم بصفات الله وأسمائه جل وعلا، قد يقول قائل: ولماذا التشنج أيها المطاوعة؟ كما يقول بعضهم: لماذا هذا التوتر، كل عبارة تفسرونها.

أقول: والله يا أخي! لو أردت أن تحاكي في كلامك كلام زعيمٍ أو رئيس لما استطعت أن تنبس ببنت شفة، فاعرف قدر الله جل وعلا، ولا يكن قدر كلام الرؤساء والعظماء في قلبك أعظم من قدر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم أنقل هذه جزافاً بل بأذني سمعتها، والتفت إلى قائلها، وقلتُ: اتقِ الله، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون هو من يفعل كل فعلٍ ويعمل كل عملٍ وفي فعله وعمله منتهى العدل لا ظلم فيه، ومنتهى الحكمة لا عبث فيه، ومنتهى الرحمة لأن رحمته سبقت غضبه، أما المسكين الحقير المخلوق الضعيف التافه، فأي حكمةٍ وأي عدلٍ وأي صفاتٍ جمعت أحسن الأمور في كلامه؟!! فلننتبه لهذه العبارات، ولننتبه لهذه الكلمات التي يُطلقها بعض الناس جزافاً وهم لا يشعرون والعياذ بالله، إننا لا نجزم أنهم يقصدون محاكاة كلام الله وكلام رسوله، ما شققنا عن القلوب، وخذوها نصيحة: تورع حتى في محاسبة المخطئين، واحسب لهم ألف عذرٍ وألف سبيل، ولكن بيّن إن كان الهدف هذا، فالويل ثم الويل مما قصدوا به، وإن كان الهدف ذاك، فالأولى والأحرى والواجب أن يُتجنب بكلام الله وكلام رسوله عن مقام العبث والهزل أو غير ذلك.