للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوة الإعداد العلمي]

إن مما يعيننا على أن ننهض بأنفسنا لكي نكون على مستوى هذا الدين: الإعداد، والإعداد يكون بالعلم، والتفقه، والجهاد في سبيل الله.

فحينما نكون على مستوى قوي واضح من العلم فلا تنتشر بيننا البدع ولا الخرافات، ولا تسري بيننا الأقوال الشاذة والأباطيل والخرافات، ولا يمكن أن يكون اضطراب أقوال الذي هم على هامش الإسلام أو يُنسبون إلى الإسلام لا يمكن أن تكون مصدر خلافٍ أو زعزعة بيننا، ولا يكون ذلك إلا بالقوة والإعداد، بقوة العلم وبقوة الفقه في دين الله، وهذا لا بد له من وسائل، يحتاج إلى طلب العلم، ويحتاج إلى حلق العلم، وإلى المزاحمة بالركب على المشايخ في حلق الذكر في المساجد، أو في بيوتهم، أو في مجامع الخير، ويحتاج إلى القراءة، وإلى البحث، والاستماع، ويحتاج إلى التنقيح والتحليل والتفكير.

كثيرٌ منا قد حفظ نظام التقاعد كالفاتحة، لأنه يعرف متى ينتهي، ومتى تنتهي الخدمة، وكم خُصِم من راتبه أيام كان يأخذ راتباً؛ لأنه فكر وقدر كثيراًَ في هذا الأمر حتى استوعبه وفهمه؛ لكن الكثير ما فكر كيف ينشر خُلُقاً حميداً أو فكرة نافعة في بيته أو في حارته أو في حيه أو مجتمعه، ولو أهمه الأمر لاشتغل به، لكن للأسف مجرد انتسابٍ، لا توجد عنده حرقة أو لهفٌ وشوقٌ إلى نشر هذا الدين.

فلا بد -أيها الأحبة- من أن نُعِد، لا بد من أن نُعِد، بقوة العلم بقوة التفقه بالحجة الظاهرة، والله إن العلم -أيها الأحبة- خير سلاح بعد رحمة الله جل وعلا يحفظ صاحبه من الانزلاق في المعصية، وكم زل وهلك وضاع من العُبَّاد! ولكن ما أندر -يعني: قلة- مِن الذين يحصل منهم الزلل والهلكة من العلماء! لأن العابد يُغْوَى أو يفتن بشبهة فلا يعرف كيف يتصرف، ثم ينساق في معصية لا يعرف أنه منذ بدايتها قد جنح وذهب مسلكاً بعيداً عما يرضي الله جل وعلا؛ لكن طالب العلم، المتفقه يعرف الأمور من بداياتها، فإن كانت بداية حسنة اتخذ سبيلاً مباركاً إليها، وإن كانت بداية مشبوهة، عرف أن الحق أبلج، والحق نظيفٌ عطرٌ طاهر لا يمكن أن تكدره شوائب.

وكم عجبت ذات يومٍ من شاب وقف بعد صلاة العشاء في يومٍ من الأيام يريد الحديث معي، فلما التفتُّ إليه أكلمه، أخذ يبكي وانهمرت دموعه غزيرة وانساق في بكائه، فقلت: أكيد في نفسه عبرات يريد أن يخرجها، لا نستعجل بالحديث معه دعه حتى يخرج بقية عبراته، فلما انتهى من بكائه التفتُّ إليه وقلت: ما الذي بك؟ قال: والله أنا مستقيم وكنت أشهد الصلاة في هذا المسجد وصلاة التراويح وو إلى آخره؛ إلا أني سافرت مع صديقٍ أراد مني أن أرافقه في السفر إلى مدينة ما، وسافرت معه وحصل مني الزنا -والعياذ بالله-! قلت: سبحان الله العلي العظيم! صدق الإمام الشافعي: لا تنظرن إلى بكائهم في السجود، ولكن انظرهم عند الحلال والحرام.

كثرة الصياح والنواح والبكاء ليس بعلامة فارقة مميزة، لا شك أنها دليل على حضور القلب والإخبات والخشوع لمن خرج منه من غير تكلفٍ؛ لكن المقياس الحقيقي: أين هو عند الحلال والحرام؟ المقياس الحقيقي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: (ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة) إلى آخر الحديث.

فالإنسان تعرفه جيداً عند الحلال والحرام، فهذه من الأمور المهمة أيها الأحبة.

فشاهد الكلام: هذا الشاب لما بحثتُ معه عرفتُ أنه يحب الخير ويحب الطيبين، يُشكر على هذه المحبة وهذه الموالاة؛ لكنه ما زود نفسه بالعلم، ولو زود نفسه بالعلم ما زَلَّ هذا الزلل، ولكان العلم بإذن الله وبمشيئة الله ورحمته عاصماً يعصمه من الوقوع في الخنا والرذيلة والفاحشة.

فالعواطف -أيها الأحبة- لا تقوم عليها أمم، ولا تنتشر بها دعوات، ولا ينتشر هذا الدين ويتأثر الناس به إلا إذا رفعه علماء لديهم من العاطفة والحرقة ما يؤثر على الآخرين، لكن العلم العلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:١٩] الله جل وعلا في شأن توحيده وألوهيته لم يرضَ بالمعرفة، أو تفكرْ أو تأملْ أو تثقفْ أو تعرفْ، ولكن، {فَاعْلَمْ} [محمد:١٩] فلا بد من العلم والعلم بالله أولاً ثم العلم بنبيه والعلم بأحكام الله جل وعلا، هذا مما يعصم الإنسان ويرفع منزلته ومكانته إلى خير حالة أو خير درجة تُرجى أن تكون للمسلم الذي يرجو ما عند الله جل وعلا.