للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذم الزنا في الشرع وموجباته]

الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً يليق بجلال الله وعظيم سلطانه، نحمده سبحانه أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١].

معاشر الأحبة: يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:١٥١] وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا).

أيها الأحبة في الله! جريمة الزنا فاحشةٌ منطلقها من غريزةٍ موجودةٍ في بني الإنسان، لكن صاحب تلك الغريزة لم يتحكم بها، ولم يجعلها منضبطةً على النحو الشرعي الذي جاء المسلم في كتاب ربه وسنة نبيه، ودين الإسلام لم يكبت الغرائز، ولم يطلق لها العنان، إن دين الإسلام لم يطلق للغرائز العنان تسبح حيث شاءت وكيف شاءت بلا حدود، ولا روادع تردعها من دينٍ أو خلقٍ أو عرف -كما هو الشأن في المذاهب الإلحادية التي لا تؤمن بدين، ولا فضيلة- وفي هذا انحطاطٌ بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، وإفساد للفرد والأسرة والمجتمع، حينما يترك العنان طليقاً للغرائز تعبث كيف شاءت، ودين الإسلام لم يصادم الغريزة، ولم يكبتها كما هو الشأن في مذاهب الحرمان والتقشف والتشاؤم، كالرهبانية والمانوية، ومن فعل بالغريزة هذا الموقف، فقد وأدها، وعطل عملها، ووقع في منافاة الحكمة التي من أجلها ركبت في الإنسان، إن دين الإسلام جعل لهذه الغريزة حدوداً تنطلق في داخلها وضمن إطارها دون كبت مرذول، أو انطلاق مجنون.

أيها الأحبة في الله! إن دين الإسلام لم يجعل هذه الغريزة مكبوتةً ولم يجعلها طليقة، بل وظفها ضمن إطار نافع للفرد وللمجتمع، خلافاً لتلك الشرائع التي أباحت الانفتاح والانحلال، والعلاقات الاجتماعية المفتوحة.

أيها الأحبة! إن هذا الدين الذي يسر لهذه الغريزة سبيلاً من الحلال، ونهى صاحبها عن التبتل واعتزال النساء، هو الدين الذي حرم الزنا، وهذا هو الموقف العدل الوسط، فلولا أن شرع الزواج ما أدت الغريزة دورها في استمرار الإنسان وبقاء نوعه، وما نشأت الأسرة التي تتكون في ظلالها العواطف الاجتماعية الراقية، من المودة والرحمة والحنان والحب والإيثار.

عباد الله! إذا رأينا الإسلام قد حارب الزنا وشدد في النهي عنه، والتحذير منه، ذلك لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب والجناية على النسل، وانحلال الأسر، وتفكك الروابط، وانتشار الأمراض السارية، وطغيان الشهوات، وانهيار الأخلاق، يقول ابن القيم رحمه الله: والزنا يجمع خلال الشر كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورعٌ، ولا وفاءٌ بعهد، ولا صدقٌ في حديث، ولا محافظةٌ على صديق، ولا غيرةٌ تامةٌ على أهله، فالغدر والكذب وقلة الحياء والخيانة، وعدم المراقبة، وعدم الأنفة للمحارم، وذهاب الغيرة، هي خلق الزاني.

ومن موجبات هذا الزنا: غضب الرب عليه بإفساده، ومن موجباته: سواد وجه صاحبه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، ومن موجبات الزنا: ظلمة القلب، وطمس نوره، وهو الذي أوجب طمس نور الوجه، وغشيان الظلمة له، ومن موجبات الزنا: الفقر اللازم، ومن موجبات الزنا: أنه يذهب حرمة فاعله، فيسقط من عين الله، وأعين عباده المؤمنين، ومن موجباته: أنه يسلب الزاني أحسن الأسماء وهو العفة والبر والعدالة، ويعطيه أضدادها، كالفجور والفسق والزنا والخيانة.

قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا، وقد أكد حرمته سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٦٩ - ٧٠] وقد قرن الله الزنا بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه، حتى استقر فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوانات، كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: [رأيت في الجاهلية قرداً زنا بقردة، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا].