للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المداهنة في دين الله لا تجوز]

لكن هذا لا يعني المداهنة، ولا يعني النفاق، ولا يعني السكوت عن كلمة الحق، بل إن أخلص الناس في صدق معتقده تجاه ولاة الأمور بما يوافق معتقد أهل السنة والجماعة، إن أخلص الناس في شأنه هذا هو أصدقهم عبارة، وأقربهم نصيحة ولو كانت قاسية:

وإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب

لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأبدان بالعلل

ويبقى الود ما بقي العتاب

إن العتاب والنصيحة والخطاب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجتمع كفار قريش يتلقفون الأفواه، ويتلقفون الزلة ويتلقفون الخطأ من صحابته، أو من سلوكه صلى الله عليه وسلم، وحاشاه وهو المعصوم ولكن بتفسيرهم الخاطئ، ومع ذلك إن الله جل وعلا لم يقل هذا نبي، ولا يمكن أن ينزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة فيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تستغله قريش، ويستغله الأكاسرة والقياصرة فسكت عن عتابه صلى الله عليه وسلم، بل ورد العتاب وجاء الخطاب بألذ صوره! بألذ أساليبه وألين عباراته! قال الله جل وعلا يعاتب نبيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] وهذا من ألذ وألين أساليب العتاب، فبشره بالعفو وبشره بالمغفرة قبل العتاب معه في شأن أسرى بدر: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣].

ويقول الله جل وعلا معاتباً الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:١٥٢] ويقول الله جل وعلا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥] خطاب من الله لصحابة رسول الله، ولم يكن سبباً في منع نزول هذا الخطاب أو لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات التي فيها خطاب العتاب على الرسول والصحابة حتى لا تقول قريش أو يقول الكفار أو يقول المرجفون: إن الله عاتب نبيه أو عاتب أصحاب نبيه، بل جاء الخطاب وجاء العتاب: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:١ - ١٠] كلها آيات مليئة بألين العتاب وأجمل الخطاب! وكله صواب من كلام رب الأرباب جل وعلا.

ومع ذلك لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات خشية أن يقال على الرسول أو على صحابته: إن هذا مما يرجف بالصحابة أو مما يضر بمجتمع الدولة الإسلامية في المدينة، ما دام الأمر كذلك -أيها الأحبة- فلنعود أنفسنا على سماع كلمة الحق مع وضوح منهجنا.

إن الذين يقيسون مجتمعنا هنا على المجتمعات الخارجية قياسهم فاسد، ومن أفسد التصور أفسد الحكم والعمل، وما دامت تلك البلاد في مجتمعات أحوالها إما كافرة أو جاهلية أو ظلمات بعضها فوق بعض، فإننا ندين الله ونعتقد بأن هذا المجتمع مجتمع مسلم، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه خطيئة، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه معصية، وليس بالضرورة ألا يوجد في المجتمع المسلم منافقون.