للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب الانتكاسة ووسائل الثبات]

السؤال

يلاحظ أن بعض الشباب يلتزم بطريق الحق بعد أن كان يرتكب بعض المعاصي، ولكن سرعان ما يعود إلى ما كان عليه، فأرجو منك بيان وسائل الثبات على طريق الحق.

الجواب

والله -يا أحبتي- هذا مثلما قلنا، البداية العاطفية، جاء وأحضر له مصحفاً في رمضان، وقام يصيح، وصاح العالم، وتأثر لمدة وانتهت المسألة على هذا، مجرد عاطفة، أو تعرَّف على شباب: إني أحبك في الله، إني أحبك في الله، الله يجمعنا بك في الجنة، ويجعلني أراك في الجنة، وفقط، هل طلب علماً؟! هل حضر حلقة؟! هل وضع لنفسه منهجاً؟! هل اجتهد في حفظ شيء من القرآن؟! لأن العلم حينما تبدأ وتأخذ بأسبابه تستمر في طريق وفي رحلة طويلة بإذن الله جل وعلا تكون عاصمة من الوقوع في الزلل، لكن مجرد العواطف، الآن لو أعطيتكم قصة مؤثرة لتأثرتم، ولو أعدتها عليكم لكان التأثر أقل، وإذا أعدتها أربع وخمس وست مرات تصبح مملة، فتكرار العواطف شيء ممل؛ لكن حينما يكون العلم، ومع كل بادرة وجديدٍ وجديدة من جديد العلم عاطفة تحثه؛ نكون دائماً على زيادة علمٍ وزيادة عاطفة، فنستمر على هذا (ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) من الناس من يكون له ماضٍ عفا الله عنا وعنه، وسالف لا يسره أن يلقاه عند الله جل وعلا؛ لكن إذا تاب، فهو مثل قوم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نريد أن نسلم لكن لا نقدر على دفع الزكاة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] يعني: إذا تُبْتَ إلى الله فتب توبةً كاملة، وليس هذا نتوب عنه وهذا لا نتوب عنه! وهذا شديد وهذا ضعيف، وهذا وسط وهذا زائد وهذا ناقص! لا.

لابد أن تكون بدايتك جادة (من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) أما أن يكون الإنسان بدايته ضعيفة هزيلة ثم يريد أن ينافس العلماء والدعاة، ويريد أن يكون أقواهم وهو ضعيف، فلا.

تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجيء أولا

هذا لا يمكن، لا بد من بداية قوية، بداية محرقة؛ لترى النهاية الوضاءة المنيرة المشرقة، وكما يقول الشاعر:

وكل امرئٍ والله بالناس عالمٌ له عادة قامت عليها شمائلُهْ

تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائلُهْ

البدايات تحدد النهايات في الغالب، العمارة ذات اثني عشر دوراًَ لو كانت القاعدة منحرفة سنتيمتراً واحداً لاتضح الانحراف جلياً في الدور العاشر، وانهارت العمارة، يعني: الذي يبني عمارة من عشرين دوراً وكان هناك انحراف في القواعد وهو بمقدار اثنين سنتيمتر -مثلاً- فإن الانحراف في الدور الأول ليس واضحاً، وفي الدور الثاني ليس واضحاً، لكن يكون الانحراف في الدور العاشر، حيث يتضح الميل الذي يئول بالعمارة إلى السقوط، فكذلك الذي تكون بدايته ضعيفة أو بداية خلل أو بداية انحراف، في السنة الخامسة في السادسة، بل في الشهر السادس أو الشهر السابع قبل وضع الحمل ينهار سريعاً.

فلا بد أن يكون للإنسان بداية جادة، بداية منهجية، وإذا كنا نعرف أن الاقتصاديين، وذوي المشاريع يضعون الخطط الخمسية، والبرنامج الزمني لتنفيذ الخطة الخمسية، فأنت ينبغي أن تضع خطة خمسية وبرنامجاً زمنياً للتنفيذ، يعني عندك عام: (١٤١٠هـ) أو (١٤١١هـ) ما هي قراراتك؟ أنت الآن وزير التخطيط في بيتك، أنت الأمير والملك والحاكم والخليفة ومجلس الوزراء في بيتك، تملك كل هذه الأمور في بيتك؟ الآن أمسك دور التخطيط، ماذا خططت في بيتك خلال سنة قادمة، ربما تبدأ السنة وتنتهي وعامٌ بعد عام، وما كأن الأعوام مرت! من تخطيطك على الأقل لنفسك خلال عام أن تحفظ ثلاثة أجزاء إن لم تكن من المتفرغين للحفظ أو من المهتمين، أو أربعة أجزاء خلال سنة كاملة، لا أظن أن هذا صعباً، اقسم ثلاثمائة وستين يوماً على عدد صفحات الأجزاء الثلاثة، ستجدها شيئاً سهلاً، وكذلك حفظ عشرة أو عشرين أو ثلاثين حديثاً، والصدقة بكذا، وزيارة مقدارها كذا، والارتباط بدرس أسبوعي لأحد العلماء في المسجد، أو درسين، وتجعل الجدول فيه مرونة متوافقة ومتناسبة مع ارتباطاتك وأعمالك الاجتماعية واشتغالاتك، فأنت حينما ترسم الخطة، وتبدأ تعيش في تنفيذها، وتحترم وقتك احتراماً جيداً؛ عند ذلك تخرج بنتيجة، لكن مجرد عواطف مع عواطف مع عواطف لا نخرج بنتيجة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَمِن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير لكنكم غثاء) والله إنك ترى الغثاء الآن في أبناء المسلمين.

شابٌ مسلم قبل يومين كان يسجل في الكلية طلاباً، وإذا بأحد الطلاب الواقفين يقول:

أعطِني حريتي أطلقْ يديَّا

كان يغني لـ أم كلثوم، سبحان الله العلي العظيم! آتٍ إلى صرح علمي وكان يسجل له مواد تخصص دراسات إسلامية، والرجل مُقْذِع مع أم كلثوم.

أمر هذا الدين يحتاج إلى قدرة، وإلى كفاءة وإلى بناء متين، الواقع -لا أقول هذا يأساً أو تيئيساً أو تقنيطاً- الواقع لا شك أن عليه ملاحظات كثيرة، نحتاج أن نرتفع بهذا الواقع، ما هو واقعنا؟ واقعنا الشخصي أضعف من أن نرتفع بواقعنا الحضاري والثقافي والأخلاقي والمعاملات إلى حد كبير، لِمَ هذا الضعف؟! نحتاج أن نبني، نحتاج أن نعمل، باحترامك لوقتك، واحترامك لنفسك، واحترامك لجهدك يجعل منك شيئاً، من الناس من يقول: أنا من أنا حتى أفعل؟! أنت كل شيء يا أخي.

دواؤك فيك وما تبصرُ وداؤك منك وما تشعرُ

وتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ

الإنسان يستطيع أن يحقق، ويستطيع أن يصنع إذا التزم بهذا الدين، وكان فعلاً محترِماً لنفسه ووقته، والله يسمع منه، الكافر إذا احترم نفسه صنع شيئاً، هتلر صرخ بـ النازية وأشغل العالم بها، كان طفلاً صغيراً علق صورته وعليها الزي العسكري والنياشين والبُرَيه، واستيقظ من النوم ووقف وضرب تحية جامدة لنفسه ثم خرج من الباب، احترم شخصه ونفسه، ولا أقول هذا مثلاً لأبناء المسلمين؛ لكن يوجد -أيضاً- هدفٌ للكفار، وهو في المسلمين من باب أولى، وُجِد من أبناء المسلمين من احترموا أنفسهم، واحترموا قدراتهم، وحققوا شيئاً.

فلا بد أن تحترم وقتك وتحترم شخصيتك وتحقق، لا تقل: أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً.

شرط العمل لهذا الدين: العلم ولو بمسألة واحدة، (نضَّر الله امرءاً سمع منا مقالة -لم يسمع كتاب العبادات كله أو كتاب المعاملات كله، لا، ولا مسألة واحدة- سمع منا مقالة فوعاها فبلغها كما سمعها فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع).

من أطرف وأجمل ما عرفتُ ما حدثني أحد الإخوة أن رجلاً كبيراً في السن كان لا يعرف من الحديث إلا أقل القليل، ويحفظ ما صح في آخر صحيح البخاري -وكل صحيح البخاري صحيح لا يشك أحد في هذا-: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) فكان ذلك الرجل الشائب الكبير الطاعن في السن إذا جلس الجماعة عنده في البيت يقول: يا إخوان! اذكروا الله وصلوا على النبي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) فيسبحون الله ويحمدونه وينال أجرهم، يخرج من بيته يقابله أحد يقول له هذا الحديث، ويدخل على البقال، فيقال له: ماذا تريد يا أبا فلان؟ قال: تعال، فإذا دنا منه قال الشيخ: يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) يعني: حيثما ذهب يدعو بهذه الكلمات التي علمها حتى مرض في آخر حياته، وفي مرضه الأخير يغشى عليه من السكرات، فأفاق من سكرة من السكرات، وإذ بالطبيب واقف فوق رأسه فأمسك بيد الطبيب قال: يا دكتور! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) ثم أدركته المنية وتشهد: أشهد أن لا إله إلا الله، وفاضت روحه إلى ربه، فتأثر ذلك الطبيب والتزم واستقام بسبب ذلك الموقف.

فيا إخوان: دعوة الإنسان بما يعلم فيها خير عظيم، لكن مع الحرقة والإخلاص، والله جل وعلا ينفع ويحقق.