للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهداية سهلة على من طلبها وشاقة على من تجنبها]

أيها الأحبة في الله: إذا كانت السعادة مطمعاً، والهداية أملاً يرنو إليه كل عاقل، فيا ترى هل السبيل إلى ذلك عسير أم يسير؟ الهداية يا عباد الله! سهلة ممتنعة، قريبة بعيدة، سهلة ميسرة، شاقة وحاصلة، فهي شاقة وبعيدة وعسيرة على من أراد أن يترك شهواته، وأن يترك ما عنده، وأن يترك ما تعلقت نفسه به من دون أن يعلق نفسه بطمع في ثواب الله، أو يخوف نفسه بعقاب من عذاب الله، أو يعلق نفسه برضى من عند الله جل وعلا، فمن ظن أن الهداية تسلك كيفما اتفق، وتنال بأي جهد من غير تفكر وتدبر في طلب ما عند الله من النعيم، والخوف مما عنده من العذاب والجحيم، وطلب ما عنده جل وعلا من الرضا التي إذا حصلت، فلا يضر العبد غضب الخلق وتغيرهم عليه:

إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ

من طلب السعادة والاستقامة والهداية بغير أن يفكر أنه ينال فيما يترك جنة عرضها السماوات والأرض، ورضاً من رب رحيم لا سخط بعده، وجنة لا يحول أهلها ولا يزولون، ونجاةٍ من عذاب أبدي سرمدي مقيم، فإن الهداية تكون عليه شاقة، تكون صعبة، تكون عظيمة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥] وتكون الهداية سهلة، وتكون الاستقامة ميسورة، وتكون قريبة، وتكون حاصلة لمن إذا رأى حراماً تركه رغبةً أن يرى نعيماً مقيماً، وإذا عرض له حرامٌ تركه رغبةً أن ينال ثواباً عظيماً، ومن إذا دعي إلى حرامٍ، تركه طلباً لرضاً لا سخط بعده، ومن إذا تزخرفت له معصية تذكر نعم الله عليه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧] ومن إذا تزينت له المعصية، قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣].

من جعل الهداية والسعادة والاستقامة بين عينيه في مقابلة رضا الله، وطلب نعيمه، والخوف من عذابه، وشكر نعيمه وآلائه، فإن الاستقامة أسهل ما تكون، وإن الهداية أيسر ما تكون، ولعل هذا -أيها الأحبة- مما يبين، أو يوضح، بل يدل عليه قول الله جل وعلا في وصفه ورضاه وتكريمه لصفوة خلقه وهم أنبياؤه ورسله حيث قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠] ما الذي وحدا بهم إلى الاستقامة، وإلى الهداية، بل والمسارعة في أسبابها، وطلب كل فعل مآله مرضاة الله؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠] بل ويخضعون ويتضرعون لربهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠].

إن هذه المسائل مرتبطة ببعضها، فالمسارعة إلى الخيرات من أسبابها: الإلحاح في الرغبة، وفي طلب الجنة، والإلحاح في الرهبة، والاستعاذة من النار، والدوام على الخضوع والخشوع.

وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان

وعليهما فلك العبادة دائرٌ ما دار حتى دارت الفلكان