للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستقامة العاطفية والحماسية]

وإنا لنبين أسباب بعدهم، بل ومن أسباب انحراف بعض المهتدين بعد هدايتهم، وانتكاس بعض المستقيمين بعد استقامتهم يعود إلى أمورٍ منها: أن العبد ربما بدأت استقامته عاطفة، وبدأت هدايته مشاركة، وبدأت توبته حماسةً دون أن ينظر إلى أنه بهذا ينال رضا الله، ويدع ما يشتهيه لأمر الله، ويترك ما يحبه لمحبوب الله، ويدع رغباته لما أمر به الله ورسوله؛ فإن من نظر إلى هذا الأمر بادئ ذي بدء، وتذكر أنه لا يمشي خطوة إلا لأن الله رضيها أو أمر بها، ولا يتقهقر خطوة إلا لأن الله نهى عن الإقدام إليها، من نظر أنه لا يلفظ كلمة، ولا ينفق ريالاً، ولا يكف يداً عن مال، ولا يسعى إلى مقصدٍ، ولا يحجم عن أمرٍ إلا لأن الله أمره أو نهاه، لأن رسول الله أرشده أو حذره، فحينئذٍ تكون هدايته واستقامته فوق مستوى استقامة الحماس العاطفي، والنشوة المؤقتة، والتأثير الآني الذي ربما زال بعد دقائق من الخطبة والمحاضرة والموعظة، إذا علم هذا وتحقق فإن من كانت هدايته مرتبطةً بالطمع فيما عند الله، والخوف من عذابه، فمهما تزخرف وتزين له من الأمور، فإن ضميراً حياً يعيش معه، وإن نفساً لوامةً تحاسبه، وإن قلباً رجاعاً يخاف به، وإذا ابتعد عن ذلك، فربما بكى حال الموعظة، وخضع حال المحاضرة، وأنصت حال الخطبة، فإذا خرج وولى نظر إلى معصية ولم ينظر ما حولها من عذاب توعد الله به من فعلها، وإذا نظر فاحشة أقبل إليها بشهوته، ولم يتذكر وعيداً توعد الله من اقترفه.

أقول هذا أيها الأحبة! لكي نجعل استقامتنا خاضعةً منبعثةً هادفةً إلى أن كل فعلٍ فيها بأمر من الله، وكل إحجامٍ فيها بنهي من عند الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تجد المستقيم والمهتدي يعتز باستقامته سواءً كان بين إخوانه المتدينين المستقيمين، أو بين إخوانه من سائر المسلمين، ولو كان فيهم العصاة، أو كان فيهم الظلمة، أو كان فيهم من هو بعيد البون والمسافة عن الاستقامة والهداية.

إن من دلائل الاستقامة الثابتة، والهداية الصحيحة أن تجد العبد فخوراً متشرفاً معتزاً باستقامته في أي مكان، وفي أي مقام، وبين أي قوم، وعند كل أناس، وتحت كل سماء، وفوق كل أرض، لأنه مرتبط بأمر الله: يا عبد! أن افعل، وبأمر رسول الله: يا عبد الله! أن افعل، ومنزجرٌ بنهي الله: يا عبد! لا تفعل، وبنهي رسول الله: لا تفعل، حينما يكون العبد مرتبطاً بهذا فلا يضيره، ولا يتردد أن يقيم شعائر دينه في كل مقام، وفي كل موقع، أما من كانت هدايته مشاركة جماعية، أو حالة حماسية، أو موجة عاطفية، نعم.

سينافس بين إخوانه من المتدينين، سيتحمس بينهم وعندهم ومعهم وإليهم ومنهم، ولكن بعد أن يخلو في مقامٍ قل فيه النصير، وندر فيه المعين، ولم يجد فيه من يعينه، ربما انتكس واستحى ظناً منه أن هذا حياءً، وربما تردد وتقهقر وتراجع، لأنه هناك لم يتذكر أنه إنما يقيم أمر الله ورسوله في أي موضع، وفي أي موقع، وفي أي حال.

هذه من أهم الأسباب التي من أراد بها هدايةً لا زيغ بعدها، واستقامةً لا انحراف بعدها، واستمراراً لا انتكاس فيه عليه أن يتذكر دائماً أن استقامته لله وبأمر الله، ومن الله وإلى الله، ومع ذلك كله، فلا حول له ولا قوة إلا بالله جل وعلا.