للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مجالسة قرناء السوء]

الأمر الآخر يا عباد الله! الذي يلاحظ ملاحظة جلية، بل ويقطع بقوة أثره، وبأثر فعله على النفوس بين الذين يريدون الاستقامة، أو بين من استقاموا، فربما انحرفوا بعد ذلك: الجلساء، وليس هذا الأمر بغريب عليكم، ولكن ربما تساهل البعض به، فظن أنه بلغ منزلة لو خالط من خالط، أو جالس من جالس، فإنه لن يتأثر أبداً، وقد ظن جهلاً، وتوقع خطأ إذ أنه لا يوجد عبدٌ لا يتأثر إلا النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم من تأثير الناس عليه:

وبلوت أخبار الرجال فلم أجد رجلاً يؤثر دون أن يتأثرا

إلا النبي محمدٌ فجعلته علماً وسرت على هداه مكبرا

فيا أيها الأحبة: ربما أصيب العبد بانتكاسة بعد استقامة بسبب جلسائه، فإن المرء من جليسه، والطبع استراق، والبهائم -مع أنها أقل بدرجات كثيرة في وسائل العلم والمعرفة والتلقي ألا وهي الأسماع والأبصار- تتأثر ببهائم عجماوات، ليست من فصيلتها، وليست مما يشاكلها أو يشابهها، فما بالك بابن آدم الذي يجالس بني جنسه ينطق كما ينطقون، ويبصر كما يبصرون، ويأكل ويشرب كما يأكلون ويشربون، ويشتهي ما يشتهون، وله من المطامع مثلما لهم، أوليس هذا بأقوى دليلٍ على أنه يتأثر؟! والله إنه يتأثر إلا من ألح على ربه مستعيناً بخالقه سائلاً ربه خاصةً في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك؛ لأن العبد على خطر عظيم، لا تأمننَّ على مهتد ضلالة، ولا تستبعدن على ضال هداية، وإن رأيت أحداً مهما كثرت ذنوبه، وتنوعت جرائمه، وتعددت خطاياه، وأسرف ومضى في المعصية إياك أن تتألى أو تستبعد هدايته، فما يدريك أن يكون أقرب منك وأقوى منك في الحق الذي بعث الله به نبيه، ولا تأمننَّ على مهتد ضلالة، أو معصية، أو صغيرة أو كبيرة، فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن من استعان بنفسه ضل، ومن توكل على ما عنده انقطع، ومن اتصل بحبل البشر انقطع، ومن استعان بالله وتوكل على الله واستهدى بالله، هداه الله ووصله الله وكفاه الله وأعانه الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:٣].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.