للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فكر في المستقبل على قدرك]

وتجد الشيطان كثيراً ما جعل بعضهم يفكر في المستقبل، بل إن بعضهم بلغت به المخاوف والوساوس حتى أنه لا يكاد يخرج من بيته، أو لا يكاد يبيع أو يشتري أو يغامر أو يعمل عملاً نافعاً في مغامرة نافعة، تجده دائماً جباناً خواراً ضعيفاً متشائماً، الأصل في رؤيته السواد، والأصل في الناس الخيانة، والأصل في المعاملات الفشل، والأصل في التجارات الخسارة، فمثل هذا لا يتحرك قيد أنملة، ويموت في مكانه، ولو أنه تحرك لربح تارات، أو خسر تارة وربح بعدها تارات، لسلم تارات ولو أصيب بشيء لأصاب بعدها خيراً كثيراً، لكن هذا التشاؤم هو الذي جعله يعيش في دائرة الهم والقلق والغم؛ لأنه لم يتعد أفكاره وسعيه في تفكيره فيما مضى، وأما ساعته ولحظته وحالته التي هو فيها، تجده بعيداً عن التفكير فيها.

أيها الحبيب: اعلم أن من واجبك أن تفكر فيما هو مقدور بين يديك.

إن تعجب فعجبٌ حال كثير من الناس أفكاره متعلقة بما ليس في يده! وطموحاته قد بلغت ما يعجز عن الوصول عنه:

من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه الطرف قد حسرا

تعجب من أناس يريدون السطوح بلا درج! ويريدون الشهادة بلا علم! ويريدون الطب بلا تعلم! ويريدون التجارة بلا سعي! ويريدون الولد بلا زواج! ويريدون الثمر بلا غرس ولا زراعة! هذه من الآمال الغبية والطموحات الكاذبة، إن من كان عاقلاً في طموحاته، ستجده عاقلاً في وسائله التي يتخذها للوصول إلى هذه الطموحات.

نعم نحيي شباباً ورجالاً ونساءً، بلغت طموحاتهم عنان السماء.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ

طموحاتٌ ربما تجاوزت عند بعضهم حطام الدنيا وترابها ومتاعها الفاني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك لما قال أحد السلاطين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إنك تريد حكمي وملكي، فقال ابن تيمية: أنا أريد حكمك وملكك! والله إن حكمك لا يساوي فلسين، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض، فمن أراد جنة عرضها السماوات والأرض، كيف يريد حطاماً ومتاعاً زائلاً وفانياً من عرض الدنيا، فالعاقل يشتغل بما يقدر عليه، وعليه أن يبتعد عما لا فائدة منه.

عجبت من أناس وشباب منذ سنين وأنا أعرفهم يضربون ويسعون، ويغدون ويروحون في أسباب التجارة، وما جمعوا شيئاً، ولا شك أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد جعل الله الأقدار بأسبابها، والأرزاق بأقدارها، ولكن لما تأملت أو تأمل عاقل غيري وجده أراد التجارة بالمليار قبل الريال، وبالمليون قبل المائة، يعرض عليه من الرزق أيسره، ومن الحلال أطيبه، ومن المقدور أيسره، فيعرض عن هذا، تأتيه من أرزاق الله أمورٌ كثيرة فلا يقبلها؛ لأنها من فئات المئات والعشرات، ولكنه يطمح في فئات الملايين وما بعدها، اشتغل بما لا يقدر عليه، وأراد قمة بلا سلم يفضي إليه، فتجده مضى معلقاً بجنون العظمة، وكبرياء الثروة، وأوهام الثراء والغنى، ففي ذات يومٍ تجده محطماً كسيراً معتزلاً مستوحشاً قلقاً؛ لأنه فكر وسعى فيما لا سبيل له إليه، وأعرض عما بين يديه، فلأجل ذلك اجتمعت الهموم في رأسه، واجتمعت المصائب بين عينيه.