للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وطن نفسك علىالابتلاء]

واعلم أيها المسلم! أن العبد قد يقدر الله عليه المقادير: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧] فالعاقل عليه أن يوطن نفسه على أن الدنيا موقع ابتلاء: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤] الأصل فيها أن لذاتها مكدرة، وأن أحبابها يتفرقون، وأن أحياءها يموتون، وأن أصحاءها يسقمون ويمرضون، فلا تجزع بما يكون، أو قد يكون ولكن إذا نزل أمر من قدر الله، فلا تفكر فيما مضى، ولا تفكر خائفاً من المستقبل، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، وإذا أصابك شيءٌ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّرَ الله وما شاء فعل (أو قدَرُ الله وما شاء فعله) فإن لو تفتح عمل الشيطان).

إن هذا المعنى قد تجده عند بعض العقلاء، وقد تجده أيضاً عند بعض الكفار، إنك تعجب يوم أن ترى كافراً أصيب بمصيبة كشلل في طرفيه السفليين، أو كعمى في عينيه، أو بأمر من الأمور، إن بعض المسلمين حينما تحل به مصيبة كهذه، تظلم الدنيا في عينه، ويسود المستقبل في وجهه، ويتشاءم، ويشعر أن كل شيء فاته، والعجب أن تجد كافراً، أو كفاراً إذا حل بأحدهم شيءٌ من هذا، ذهب إلى معهد تأهيل المعوقين ليجد نفسه حالة سوية طبيعية قادرة على الاختلاط بالناس، يتعلم كيف يستخدم آلةً يركب بها السيارة، وكيف يقود سيارة تناسب أمثاله، وكيف يستخدم المواقف، ويصعد إلى أعلى العمارات، ويباشر أعقد العمليات، وتجد كثيراً من المعوقين أقدر من كثيرين من الذين يسمون أسوياء، وما ذاك إلا أن ذاك المعوق قد حمل قلباً نافعاً، وعقلاً متدبراً فيما يخص أمور حياته، فسبق بذلك ذلك العاجز المتشائم الضعيف، كم من مشلول سبق كثيراً من العدائين بفكره وعلمه وإنتاجه، وكم من كفيف سبق كثيراً من المبصرين، وكم من أصم وأبكم كان أحكم من كثير من الناطقين والسامعين، والسبب أن الواحد منهم تعامل مع علته، تعامل مع قضيته، تعامل مع ما حل به بأمر الله، ففاز بالأجر؛ لأنها مصيبة بقدر الله، فصبر عليها، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، هذا أولاً.

الثاني: ما جلس يبكي: أنا كفيفٌ، أنا معوقٌ، أنا أبكم، أو أصم، بل أخذ يتعلم كيف يتعامل مع الحياة، ومع الناس، ومع هذا الكون حتى ولو كان كفيفاً، أو معوقاً، أو أصم، أو أبكم.

العاقل يتعامل فيما يقدر عليه، ويجتهد فيما ينفعه، ويتعامل مع ما يستطيعه، وأما الاشتغال بالخيال، والاشتغال بالآمال التي لا يعقل إليها سبيل، فذاك من الجهل.

ويا شارد الذهن! ويا قلق الضمير! ويا جزعاً من مستقبله! يا من خلوت وحدك في حجرة ظلماء، أو ليلة ليلاء واحتجبت عن الناس! ماذا تفيدك خلوتك؟ وماذا تتذكر في عزلتك؟ تتذكر علان وفلان، أو تعيد صورة المشهد، أو الحادث، أو تعيد سيرة القضية من جديد، ولو أنك جعلت مكان هذا الخيال، ومكان هذه الوساوس وتلك الألفاظ التي تطلقها بين صوتٍ خفي ومسموع، لو جعلت مكانها ذكر الله جل وعلا، لكنت مطمئن القلب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].

قال صلى الله عليه وسلم: (من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً) نعم.

بدلاً من الخلوة والوساوس والكلام الخفي والمسموع، كن مع الناس في المساجد، واسبقهم إلى الرياض، وكن متقدماً في روضة المسجد، كن جاداً في العبادة، مكثراً من ذكر الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) إذا كنت تظن أن الله سيفرج عنك، فأبشر بالفرج، أتظن أن الله يتركك ويسلمك، وهذا ظنك بربك، وقد تعلقت بخلق ضعاف، فمن تعلق بشيء وكل إليه وعليه، فتوكل على الله، واستعن بالله، وأحسن ظناً بالله، من ظن أن الله يرزقه رزقه، من ظن أن الله يحميه حماه، من ظن أن الله ينصره نصره، من ظن أن الله ينتصف له ممن ظلمه نال حقه، من ظن أن الله معه فاز بمعية ربه، ومن ظن أنه متعلقٌ بشخص أو أشخاص، أو فرد أو أفراد، أو صغير أو كبير، فمن تعلق بشيء وكل إليه.

فيا أيها المسلم: أكثر من ذكر الله جل وعلا، ثم تأمل -يا شارد الذهن! ويا خائفاً من مستقبله- تأمل كم من الناس فوقك، وكم من الناس دونك في النعم! ربما رفعت بصرك فرأيت مئات من البشر في درجات أعلى منك، ولكن انظر إلى ملايين من البشر دونك أياً كان حاله، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).

ذلك الذي أصابه الجزع والهم والهلع، والقلق والخوف، والشرود وهذا الهم، ربما كان بسبب أراد به يسابق أقواماً كتب الله -لابتلاء الله، أو لنعمة، أو لمحنة- أن يبلغوا درجة من الدرجات، أو مرتبة من المراتب، فحاول أن يبلغها فعجز، فظل محطم النفس، شارد الذهن، خائفاً من مستقبله، فلم ينل من ساعته إلا الخوف والهم، ولو أنه قال الحمد لله كم نعمةٍ أنا فيها، وغيري محرومٌ منها.

هل وراءك صربي يطاردك؟ هل وراءك هندوسي يرتقب خروج أهلك من بيتك، عياذاً بالله؟ هل تترقب قذيفةً تحل من السماء على بيتك؟ هل أنت مريضٌ بمختلف الأمراض وأشدها؟ لئن ابتليت في مرض في جزء يسير من بدنك لا يتجاوز واحد سنتيمتر، أو أربعة سنتيمتر من بدنك، فإنك معافىً في بقية بدنك، ولئن أخذ بصرك، فلا يزال سمعك ورجلك ويدك وقواك، وتنفسك وأجهزتك وكل ما عندك، وإن أخذت أقدامك، فأنت سميعٌ بصيرٌ، فصيحٌ منطيقٌ، جدلٌ خصمٌ مبينٌ، تستطيع أن تتنعم بهذه النعم كلها، فإياك أن تزدري نعمة الله بكثرة النظر، أو بالنظر إلى من فوقك، فإن من فوقك قد يكون أعداداً قليلة، ولكن انظر إلى من هم دونك، فتجدهم يبلغون ملايين، أو مئات الملايين.