للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصدقة الجارية بعد الموت]

الأمر الثاني -أيها الأحبة- لمن أراد أن يبقى أجره وثوابه وحسناته مضاعفة بعد موته: عليه بأن يجتهد في الصدقة الجارية بناء مسجد حفر بئر كفالة داعية ترجمة كتاب إنشاء دار لتعليم القرآن تأسيس دار لكفالة الأيتام واليتامى والأيامى من المسلمين والمسلمات، كل هذه من الصدقات الجارية التي ما تربى فيها مسلم أو مسلمة، فسلم من شر التنصير، ووفق إلى فضل التوحيد بسببها، إلا وكان لمن سبلها أو حبسها أجرٌ عظيم بإذن الله عز وجل، فالعاقل -أيها الأحبة- يجتهد في هذه الصدقات الجارية.

وإني لأعجب خاصة عندنا في هذه البلاد أو في هذه المنطقة كثيراً ما يمر علينا وصية رجل من الرجال حياً أو ميتاً، فتراه قد خلف مالاً كثيراً، وقال في نص وصيته بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور أوصى بثلث ماله في أضحية له وأضحية أخرى لوالديه.

وإذا قلبت ثلث ماله وجدت ثلث هذا المال قد بلغ مئات الألوف أو بلغ الملايين، فكيف يرضى أن يحجر الخير عن نفسه وأن يحرم نفسه فضلاً عظيماً، فيجعل الثلث كله في هذه الأضحية وربما البقية الباقية من هذا أخذها أولاده يقتسمونها أو وجد فيهم من يعود بصرفها إلى أبواب البر بعد نزاع وشقاق طويل مع الورثة؟ أيها الأحبة! عجباً لرجل عنده مصنع يستطيع أن يشغله الليلة، ثم يقول: إذا مت فشغلوا هذا المصنع، عجباً لرجل عنده مورد يدر عليه الحسنات من هذه الليلة، فيقول: إذا مت فابدءوا بتوريد الحسنات علي.

هذا من الجهل والغفلة، إذا كان عندك ما توصي به أليس من الخير لك أن ترى ثمرات عملك وأنت حي؟ بعضهم يريد أن يوصي بثلث ماله، وثلث ماله يساوي مسجداً صغيراً أو كبيراً، جامعاً هنا أو في بلدة إسلامية أخرى، ثم يقول: إذا مت فاجعلوا في ثلثي كذا وكذا، ما الذي يضيرك وأنت صحيح شحيح غني حفي تخشى الفقر وترجو الغنى أن تنتصر على نفسك من الساعة، وأن تخرج ثلث مالك، وأن تذهب لترى موقعاً من البلدان في هذه البلاد أو في غيرها يحتاج إلى بناء مسجد أو مسجداً فيه كثافة من السكان فتؤسس بجواره مدرسة لتحفيظ القرآن، وتؤسس فيها منزلاً لهذا المدرس وزوجته، واعلم بعد ذلك أنه ما حفظ القرآن حافظ، وما تعلمه متعلم إلا ولك أجره، إذ أنك السبب في إنشاء هذه المدرسة وإنشاء بيت يسكنه هذا المعلم.

ما الذي يجعلك تؤخر الأجر إلى ما بعد موتك؟ هل أنت بخيل على نفسك بالحسنات أم تسوف؟ وإن التسويف آفة الأعمال؛ لأن كثيراً من الناس يقول: سوف أجعل داراً للأيتام سوف أبني مدرسةً للقرآن سوف أبني مسجداً سوف أكفل داعية سوف أكفل يتيماً سوف أجهز غازياً، سوف أطبع كتباً، وبعد ذلك تأتيه المنية في ساعة ما خطر على باله أن توافيه المنية بها، ثم يموت وقد ترك آلافاً من التسويف وما ترك أمراً ينفعه.

العاقل من يبادر من هذه اللحظة، لئن كانت وصيتك قد كتبتها وحررتها في أمور الخير بعد موتك، فحررها من الآن واشتغل بشيءٍ واجعلها في عمل ينفعك من الآن، ما الذي يضيرك أن تجلس في حلقة في مدرسة قرآن لا يعرفك الناس وأنت الذي بنيتها، وأنت ترى هؤلاء الطلاب يترنمون ويغردون، أصواتهم كأصوات البلابل في تغريدها، وألحانهم طيبة بالقرآن الكريم؟ أنت في هذه الحلقات تلتفت يمنة فإذا بالصغار يحفظون، ويسرة فإذا بالكبار يتعلمون، وأمامك فإذا بالمعلم والمعلمين يعلمون، وفي قرارة نفسك، والناس لا يعرفونك تقول: الحمد الله الذي أراني، الحمد لله الذي نصرني على شهواتي وشيطاني وشر نفسي فجعلني أرى هذا الخير الذي هو من خالص مالي ولا يعلم به أحد.

خير لكم -يا عباد الله- أن يكون للعبد سر بينه وبين الله من الأعمال الصالحة، إن أناساً لهم من الأعمال الصالحة ما لا تعلمه زوجاتهم ولا يعلمه أولادهم، يمشي مع الأحفياء الأخفياء الأتقياء فيسمع بمسجد يبنى أو بدار للقرآن تشيد أو بمعهد لكفالة الأيتام وتعليمهم العلم الشرعي فيأتي ويقول: هذه أمانة من فاعل خير وهو صاحب خير بعد الله عز وجل، وهو صاحب المال، لكن يريد ألا يعرف بأي حال من الأحوال، لا تعلم زوجته ولا أولاده ولا أهله (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) عساه أن يكون منهم: الذي أنفق نفقة وتصدق صدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.

الواقع -يا عباد الله- يدعونا إلى أن نبادر، فإن أمة الإسلام بحاجة إلى نفقاتنا، وإن الشيطان كما قال الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:٢٦٨] في هذه الأيام وقبلها وبعدها تسمع كثيراً من الناس يقول: إن النقدية عزيزة، وإن النفقة بسخاء صعبة المنال، وإن الناس لا تكاد تجد منهم من يبذل بسخاء بسهولة، وإن وإن وإن حتى إذا دعي إلى بناء ونفقة وصدقة وكفالة؛ تقهقر ونكص على عقبيه بسبب هذه الأقاويل، وما تنفعك كثرة الأموال إن دفنت؟ وما تنفعك إن كفنت؟ وما تنفعك إن جعلت في القبر هذه الليلة أو بعدها؟ فبادر بهذا المال إنفاقاً لله عز وجل (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) ومنها هذه الصدقة الجارية.

فاجتهدوا، ومن كتب وصيةً ولو ختمت وصدر بها صك شرعي، فاعلموا أنه بوسعك شرعاً أن تذهب إلى القاضي وتقول: هذه وصيتي بختمك وخطك، إني غيرت فيها كذا وكذا وكذا، إذ أن بعض الناس يقول: ما أجمل ما سمعنا! ولكن قد جفت الأقلام وطويت الصحف، وكتبت الوصايا وختمت بالأختام، فلا نستطيع أن نغيرها، الوصية تبرع مضاف لما بعد الموت، وهذا يعني أنك قبل الموت تستطيع أن تغير وأن تتصرف فيها، أما إذا مات الرجل، فإن من بعده لا يجوز لهم أن يغيروا في وصيته شيئاً، وعلى الذين يبدلون هذه الوصية بعد موت الموصي بها عليهم من الله إثم عظيم.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.