للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الولد الصالح ووصول خيره إلى الميت]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة! وتتمة هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم بأن العبد إذا مات انقطع عمله، تتمته أن العبد لا ينقطع عمله ولا ينقطع ثوابه ولا تقف حسناته، بل تتعاظم درجاته إذا خلف ولداً صالحاً يدعو له، والولد الصالح لا يكون بالتمني ولا بالتحلي، وإنما يكون بالتربية والصبر والمعاناة في سبيل تحقيق هذه التربية، ما أكثر الذين يخلفون الأولاد والذرية والبنات! ولكنهم عن التربية في غفلة، وعن الترشاد والتوجيه في شغل شاغل.

ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه عليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

ما أكثر الأيتام من أبنائنا! مع أن آباءهم موجودون وأمهاتهم موجودات، ما أكثر اليتيمات من بناتنا! مع وجود الآباء والأمهات؛ والسبب أن الأب مشغول صباح مساء، والأم مشغولة بالوظيفة، ولا يعلم الأطفال إلا الشاشة، ولا يوجههم إلا الأغنية، ولا يرفه عنهم إلا الملهاة التي لا تجوز، فكيف نريد ولداً صالحاً ونحن قد أسلمنا أبناءنا لخادمة تربي أو لسائق يوجه بعيداً عن توجيهنا وعنايتنا؟! أيها الأحبة! كم نعتني ببيوتنا وسياراتنا؟ كم نعتني بهذا الزجاج لكي نلمعه وبهذه الأبواب بصيانتها، وبهذه الدهانات على جدران بيوتنا وأسقفها لنغيرها فترة بعد أخرى؟ أما العناية بأولادنا فما أقل ذلك! ما أقل من يغري ولده بالمئات أو بالآلاف على حفظ القرآن الكريم! هل يوجد منا من يغري ولده بالمئات أو بالعشرات على حفظ الأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل ربما تجد الرجل الغني الثري عنده عشرة من الخدم ما بين سائق ومزارع وحارس الخ ولا يوجد عنده معلم من طلبة العلوم الشرعية الذين يوثق بعلمهم وتقواهم، ليعلم أولاده بعد العصر إلى أذان العشاء.

لقد أسكنت في بيتك أنواعاً من الجنسيات وعدداً من الشخصيات، أما بيتك فقد خلا من معلم ليعلم أولادك في حال غيبتك إذا كنت مشغولاً أو لست بقادر على أن تقوم بالعملية التعليمية! كيف كان أولاد الخلفاء؟ يجيدون الشعر والكلام والفقه والتفسير والحديث؟ كان الخلفاء إذا ولد لأحدهم ولد، دعوا المربين والمعلمين فأسلموا الولد إلى هذا المربي ليربيه في صباحه وعشيته وغدوه ورواحه، يعلمه الفروسية والرماية وركوب الخيل والرجولة ومعاملة الناس والحوار والمنطق والكلام والمناظرة وحسن الأدب والتاريخ واللغة، يعلمه كل فن حتى إذا شب عن الطوق وناهز الاحتلام وبات شاباً، يجالس الرجال كأكبر عقل في المجالس التي يجلسها.

أما نحن فأنتم ترون بعض أبنائنا، الواحد منهم في العشرين لا يحسن محادثة الرجال، وبعضهم قد تجاوزها ولا يعرف كيف يتحلى بمكارم الأخلاق في المروءات والآداب والمعاملات، من أين جاءنا هذا؟ الجواب سهل: الشاشة تربيهم، والخادمة تلاحظهم، والسائق هو وليهم، والأب مشغول عنهم، والأم بصويحباتها وذهابها وإيابها مشغولة، إنك لا تجني من الشوك العنب

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

إننا نعلم عدداً كثيراً من طلبة العلم من أهل العقيدة والسنة والجماعة في مختلف البلدان المجاورة الذين يوثق بدينهم ما ضرَّ الواحد منا لو استقدم إن كان قادراً، واستوفد إن كان متمكناً واحداً أو اثنين لتربية أولاده إن كان مشغولاً بأمور عن ذلك؟ اليوم -أيها الأحبة- الشاشة تأخذ من أولادنا أكثر مما يأخذون منا، الشاشة تخاطب أولادنا أكثر مما نخاطبهم، ناهيك عن جلساء السوء وعن الجيران في الشوارع، وعما يحدث في المدارس وعن، وعن، إن التربية هذا اليوم أصبحت مسألة عظيمة خطيرة عزيزة المنال، إذا ذكر أن عند فلان ولداً قد أحسن تربيته، يتحدث الناس به وذلك لقلة عناية القوم بالتربية، لا تكاد تجد بيتاً إلا وفيه خادم وسائق ويدفع على ذلك آلافاً، أما أن يدفع آلافاً على تربية الأولاد إن كان الأب قادراً ومشغولاً عن التربية فهذا بعيد المنال! والله تعظيماً لو أنفق الواحد نصف ماله في تربية أولاده لكان خيراً، أوليس ولدك إذا حفظ القرآن، تدعى يوم القيامة كما في الحديث على رءوس الخلائق فتكسى ويوضع على رأسك تاج الوقار، فتقول: يا ربي! بأي شيء هذا؟ فيقال: بتعليمك ولدك القرآن، إنها منقبة عظيمة ومنزلة جليلة لكننا غفلناها، أما الملابس، فلا تسل عن أفضل الموضات وأحدث الأزياء وأرقى النوعيات وأغلى الأسعار في لباسهم، وأما الأطعمة فحدث ولا حرج عن ألوانها وأعدادها، وأما وسائل الترفيه عند كثير من الناس فإن كان في البيت دش -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يقلب لهم أنواع الشاشات والموجات والمحطات، مع الأغاني، والملاهي، ولا تجد لهذا الطفل من يربيه على الصلاة مع الجماعة، وعلى آداب الدخول والخروج، وعلى مصافحة الرجال والحديث معهم، وآداب النوم والاستيقاظ، وسلامة اللسان من السب والشتيمة، والكلام الفاحش واللعن البذيء، تجد أطفالاً صغاراً يسبون سباباً ويشتمون شتائم يقف شعر رأسك من هولها وهم لا يزالون أطفالاً! من أين تعلموا هذا؟ من الشارع، يأتون بكلمات عجيبة، من أين جاءت؟ من هذه الشاشة وهذه الأفلام وهذه المسلسلات.

فيا أحبابنا! من سره أن يموت وتمضي حسناته، فعليه بذريته، وكم من رجل وأعرف بعضهم تمنى أن لو كان عقيماً ولم يبتلَ بولد عاق مجرم يؤذيه ويؤذي إخوانه! وكم من رجل تمنى أن لو كان عقيماً ولم يبتلَ بولد سود سمعته وشوه صفحته بين الناس.

فإذا سرك أن تتشرف بولدك، فعليك بالتربية، وعليك بالعناية، وإن كنت عاجزاً عن أن توفر له معلماً ومدرساً، فلن تعجز أن تبحث له عن ثلة طيبة صالحة، قد يقول قائل: ومن لي بمال حتى أستوفد به معلماً يعلم أولادي، يراجع كتبهم، يحل واجباتهم، يذكرهم ويذاكرهم، يعلمهم القرآن؟ من أين لي هذا المال؟ أنا بالكاد أجد مصاريف الكهرباء والماء والقوت فمن أين أجد هذا؟ أقول له: إذا عجزت عن ذلك، فلن تعجز أن تجد ثلة من الشباب من البراعم الصغيرة، تجدهم في مكتبات المساجد، وفي الجمعيات الإسلامية وفي المعاهد والثانويات والمدارس، اعتنِ بزيارة هذه المكتبة وخذ ولدك وعرفه عليهم، اعتنِ بزيارة المدرسة واسأل عن جمعية التربية الإسلامية، وعرف ولدك بهذه الجمعية ورائدها ومشرفها واجعله يعمل معهم، إذا عجزت عن ذلك، فلن تعجز أن يكون ولدك مع ثلة طيبة صالحة بإذن الله عز وجل.

المهم ألا ندع هؤلاء الأولاد تربيهم الشاشات وأبناء الشوارع، وجلساء السوء، وقرناء الذهاب والإياب، بل نحن نربي أولادنا كما نريد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:٦] إن ولدك فتنة، إن ولدك عدو: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:١٤] فكيف يكون هذا الولد رحمةً بدلاً من الفتنة، وبراً بدلاً من أن يكون عدواً؟ يكون بالعناية وبالتربية، فلا تستكثرن أخي الكريم ما تنفقه على ولدك بأي حال من الأحوال.

أيها الأحبة! إن من حاجتنا أن ننتبه لما يراد بأبنائنا، إن حاجتنا أن نلتفت إلى أن من عناصر إصلاح مجتمعنا وواقعنا هو إصلاح هذا الجيل وهذا النشء الذي بين أيدينا، وعملية التربية في نصف عقد من الزمن، الجيل الذين أعمارهم عشر سنوات بعد ثمان سنوات أو عشر سنوات هم رجال، ويمثلون واجهة الأمة وصورة الأمة، فإذا كل واحد في هذا المسجد اعتنى بولده، لئن قلنا في هذا المسجد ألفي رجل، فحينما نعتني بألفي شاب، بألفي طفل، ويكونون شباباً صالحين، يكونون دعاةً منتجين، يكونون قادةً مصلحين، فإن الأمة تصلح بإذن الله عز و٠جل، إن إصلاح القاعدة -إصلاح البيوت، إصلاح الذرية- من أهم الأمور بإذن الله عز وجل.

أيها الأحبة: هذا نقوله لإصلاح واقعنا، ونقوله لحسنات نرجوها ونحن في اللحود، لثواب نرجوه ونحن في عداد الأموات، لثواب نرجوه ونحن في أطباق الثرى، والله إن العاقل إذا فاتت عليه ساعة لم يذكر الله فيها ولم يقم فيها بعمل صالح، عض على أصابع الندم كيف مضت ساعة لم يجعلها في طاعة الله أو فيها شيء من طاعة الله عز وجل، فما بالك وأنت ستبقى تحت التراب ساعات؟ لا.

أيام؟ لا.

أسابيع؟ لا.

بل ربما سنوات وعقود وأطول وأطول، تخيل نفسك الآن أنك في المقبرة بجوار أهل القبور، تخيل نفسك أنك في اللحد، تخيل نفسك أنك في القبر وأنت رهين أسير في هذا القبر، لا تجري عليك حسنة واحدة، وأهل القبور لو تكلموا، وقيل لهم: تمنوا، لقالوا: نتمنى أن نخرج إلى الدنيا، فنقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لعظم أثرها وثوابها، فما بالك إذا ذكر الله وأجر الذكر لك؟ فما بالك إذا حفظ القرآن وأجر الحفظ لك؟ ما بالك إذا عمر المساجد وأجر عمارتها بالصلاة والتراويح والاعتكاف لك؟ ما بالك إذا شهد في سبيل الله وأجر الجهاد لك؟ ما بالك إذا تعلم الناس الخير وأجر هذا لك ولو كنت في قبرك؟ حينئذ -والله- لا يهمك أن تكون حياً أو ميتاً مادامت حسناتك جارية بإذن الله وسيئاتك قد كفرت بحسناتك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في دورنا