للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوحيد]

أيها الأحبة! اعلموا أنه لا انشراح بدون عقيدة نقية أو توحيد خالص، فالتوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، السجود لله وحده، والخضوع له وحده، والخوف منه وحده، والرغباء إليه وحده، فهو الذي يُدعى سبحانه لا شريك له، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت، وإليه المنتهى في كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، قدر المقادير، وكتب الآجال، ووسع على العباد في الأرزاق، وضيق على من يشاء، يذل من يشاء ويعز من يشاء، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، العبادة كلها دقيقها وجليلها له وحده لا شريك له، لا يُدعى ولا يسمى إلا بما هو أهله وما يليق به، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، فلا يسمى أو يوصف إلا بما سمى أو وصف به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

من حقق التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فإنه بإذن الله ممن يجدون انشراح الصدر ولذته، وطمأنينة الفؤاد وثباته، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأعظم أسباب شرح الصدور التوحيد، وعلى حسب كمال التوحيد وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:٢٢] وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، انتهى كلام ابن القيم.

وهذا معلوم -أيها الأحبة- لأن من تعلق بالله غاية التعلق، وتوكل إليه منتهى التوكل، فإنه في غاية الانشراح؛ إذ لا يكون أمر إلا بتقديره وتدبيره، ولا يستطيع العباد أن يقضوا شيئاً لم يقضه الله، أو يرفعوا شيئاً قد قضاه الله، أو يقبضوا شيئاً قد بسطه الله، أو يبسطوا شيئاً قد قبضه الله عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:٢].

إذاً أيها الأحبة! المؤمن على غاية اليقين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١] فهو على انشراح في صدره لا يخشى مصيبة؛ لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله، ولا يخشى أحداً في تقريب أجله؛ لأن الآجال بيد الله، ولا يخشى أحداً في قطع رزقه؛ لأن الأرزاق بيده سبحانه وتعالى، فعلام يخاف إذاًَ؟ وعلام ينقبض صدره؟ وهو يعلم أن الأرزاق والآجال والمنايا والمقادير كلها بيد الله، والمقادير كل المقادير تنطوي على تمام عدل الله؛ لأن الله لا يظلم، وتنطوي على كمال حكمته؛ لأن الله لا يعبث، وتنطوي على تمام رحمته؛ لأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه.

إن أولي العزم من الرسل الذين شرح الله صدورهم بهذا التوحيد، واجهوا كل الصعاب، وواجهوا كل التحديات بهذا التوحيد الخالص، وبهذا اليقين المنقطع النظير، فهذا نوح عليه السلام، لما جمّع قومه وألبوا، قال: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:٧١] وانظروا قول الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام:٨٠] وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام:٨١].

بل وهذه امرأة فرعون كانت تحت طاغية غاشم ظالم، وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم تلك التي شرح الله صدرها للتوحيد والإسلام فعرفت ربها، وآمنت بدينها وهي تحت هذا الضال الغاشم، يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:١١].

بل سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله عليه عز وجل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].

هل كل هذا الثبات؟ وهل كل هذا التحدي؟ وهل كل هذه المواجهة الصادقة التي لا يعترضها ريب أو تردد أو شك، إلا بسبب توحيد الخالق، ويقين عظيم أن الله عز وجل مُدبر الأمور ومقدر المقادير، وهو معهم أينما كانوا يحفظهم وينصرهم ويُعينهم، ومن حقق التوحيد فهو مُكرم بعناية الله ورعايته.

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان

إن الفتى الذي واجهه النمرود الطاغية الذي خدد الأخاديد، وشق الأحافير وملأها وأضرمها نيراناً، وألقى الناس رجالاً ونساءً وشباناً ورضعاً وشيباً فيها، ماذا قال ذلك الغلام؟ اللهم اكفنيهم بما شئت، ثقة بالله عز وجل فما ضره كيدهم إلا يوم أن أراد أن ينذر دمه في سبيل الله ونشر دعوته، إلا يوم أراد أن يسقي عقيدته بما يتناثر من أشلائه لما جعل صدره مسرحاً لسهام الطاغية، والثمن نشر كلمة التوحيد، قال له: إن شئت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، ثم أخرج سهماً من كنانتي واجعله في كبد قوسك، فإذا أردت أن ترمي به، فارفع صوتك وقل: باسم الله رب الغلام.

بعد أن كان لا يتسمى إلا بألوهية ذاته، وربوبية شخصه، وتصرفه وإرادته المطلقة، ظناً منه أنه المتفرد، فأراد ذلك الفتى أن يجعل من أشلائه ودمه قرباناً لكلمة لا إله إلا الله، وما أطيب هذا القربان! وما أجمل هذا العمل! في نشر هذه العقيدة.