للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر الله عز وجل]

أحبتي في الله! ومن أسباب انشراح الصدر: دوام ذكر الله عز وجل، والذكر شأنه عجيب، عبادة يسيرة بجارحة صغيرة، وأجورها وحسناتها كثيرة، أما كونها عبادة يسيرة فلأن الذكر ليس بهز الأيدي، ولا بحركات الأرجل، ولا بتحريك الرقاب والرءوس، إذاً لانفصمت وتقطعت، لكنه بأصغر جارحة في البدن، وهي اللسان، وما أسهل تحريك اللسان على الإنسان، هذا اللسان الذي يجد الواحد منا بأبسط الأمثلة أنه يدفع فاتورة كلامه حينما تأتيه فاتورة الجوال، وآخر الشهر يجد ضريبة حركات لسانه في القيل والقال عبر الجوال أربعة آلاف، أو خمسة آلاف أو ثمانمائة ريال أو أقل أو أكثر، وكلٌ يجد ضريبة حركات لسانه في هذا الجهاز الذي يُحصي؟ ومن الذي يحصي؟ ليسوا ملائكة مقربين، لا.

الذي يحصي في هذه الفاتورة أجهزة تحسب على الإنسان كل دقيقة وثانية من كلامه.

فما بالك بالسجل الآخر الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فلتات اللسان وحركات اللسان، إن أطلقت في خير فلا تسل عن الطيبات والحسنات والدرجات العلا، وإن أرسلت في شر فلا تسل عن الهلكات والدركات والأمر الذي لا يسر صاحبه، فذكر الله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، وإني لأدعو على سبيل اليقين بهذه الوصفة والعلاج الرباني فأقول: من وجد منكم في نفسه ضيقاً، أو في حاله كرباً، أو في فؤاده شيئاً من الاكتئاب والاضطراب، فأوصيه بحسن الطهارة في ملبسه وبدنه، وأن يعمد إلى بيت من بيوت الله، أو يصلي ركعتين في بيته، فيصلي ما كتب الله له، ثم يستقبل القبلة ويسبح الله ما استطاع، ويستغفر الله ما استطاع، ويحمد الله ما استطاع، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل ما استطاع، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطاع، وإني لأتحدى أن يقول: إنه قام من مجلسه كساعة جلوسه.

بل شتان بين أول لحظة جلسها، وبين آخر لحظة قام فيها بعد الذكر، آخر لحظة بعد ذكر طويل قام فيها يجد أن صدره اتسع، وأن فؤاده انشرح، وأن الدنيا قد أصبحت آفاقاً بعيدة، وميادين متعددة، ومجالات واسعة، وأن الخير ينتظره، وأن البشر على موعد معه في كل حال وفي كل مجال.

أما هذا الذي:

وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها

إذا ضاق صدره فزع إلى الأغاني، فإذا زادته الأغاني ضيقاً فزع إلى مسكر، فإذا انتهى وزاده المسكر خبالاً

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول

فيخرج من داء إلى داء، ومن سقم إلى بلاء، ومن مصيبة إلى أعظم.

وحينئذ تكون دوامة النكد والقلق والمصائب التي لا تنتهي.

فإني لناصح، وإني لداع نفسي وكل إخواني والسامعين والسامعات، من وجد في نفسه ضيقاً فليفزع إلى الله، وليأنس بذكر الله عز وجل، ولقد جرب ذلك، بل عمل بذلك على سبيل اليقين ليس التجربة، عمل بذلك أقوام كانوا يترددون على مصحات نفسية، فعوضهم الله بذكره، والأنس بتسبيحه وحمده وشكره، بدلاً من هذه العقاقير التي تجعل النفس في خُمول وكسل، والبدن في انحطاط وضعفٍ، يظن صاحبها أنه قد انتهت مشكلاته وقد انتهت مهماته، وما هي إلا تخدير بعد تخدير، حتى يحتاج إلى جرعة أخرى.

لذا أيها الأحبة! عليكم بذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله شعار المحبين لله، والمحبوبين من الله، والله عز وجل يقول: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله.

فصاحب الأذكار مذكور عند الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:١٥٢] والله عز وجل قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:٣٥].

والله سبحانه وتعالى قد أمر بالإكثار من الذكر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:٤١] نحن كم نذكر الله عز وجل في يومنا؟ الواحد لو أراد أن يُحصي عدد ذكره لله لوجدها في بعض الأحيان لا تتجاوز عدد أنامله في يديه.

والحق -أيها الأحبة- أن الواجب علينا أن نتعود على ذكر الله، وأن نجعل ذكر الله شهيقاً وزفيراً، ونفساً يدخل ويخرج في أجوافنا.

عود لسانك ذكر الله تحض به إن اللسان لما يعتاد قوال

وإن الله أثنى على الذاكرين وعدهم أولي الألباب، وأهل الذكاء، وأهل الحجا والفطنة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠] من هم أولو الألباب؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩١] وأنت قادر على ذكر الله في كل أحوالك، في السيارة والطائرة، وفي السفينة والباخرة، وفي حلك وترحالك، وفي وقوفك واضطجاعك، وفي ذهابك وإيابك، وفي متجرك ودكانك، وفي المستشفى وفي كل حال فأنت لا تعجز عن ذكر الله، وذكر الله كنز لا تخشى عليه.

لو أن أحداً قال لك: تفضل هذه مائة ألف ريال، فإذا دخل البيت ظل يفكر أين يستثمر هذا المال في عقارات الإيراد؛ لكن نسبة الربح خمسة إلى ستة في المائة، تمور نظيفة لكن أخاف أن تفشل - المملكة إن شاء الله فيها خير، وكلها فيها خير، حتى لا يقال هذه دعوة مضمونة لقطع الاستثمار- ويظل يفكر تصلح أو لا تصلح هل أساهم أم لا وهلم جراً، وتجده في حيرة من أمره ماذا يفعل بالمائة ألف؟ أين يضعها؟ لكن اجعله يجمع كنزاً اسمه كنز ذكر الله، قل سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، قد خُتم عليها، وسجلت لك، عبد الله فلان بن فلان ذكر الله في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، ولا يسرق هذا الكنز أحد، ولا تخشى عليه انخفاض أسعار النفط، أو ارتفاع الأسهم، أو تغير أحوال البورصة، كنز الذكر لا تخشى عليه شيئاً أبداً، أما كنز الدنيا فأنت مشغول به.

أحد العلماء أتاه بعض الشباب جزاهم الله خيراً، يريدون أن يدخلوه معهم في مجال استثمار، وكان هذا العالم من القصيم متع الله به على طاعته، ومتع الله بأهل المملكة جميعاً على الطاعة، قالوا له: يا شيخ! عندنا مساهمة طيبة ونظيفة وممتازة، وحباً فيك فضيلة الشيخ أعطنا إذا كان عندك قرشين تساهم بها معنا، قال: أنا ليس لي حاجة في هذه الأمور، دعوني في التعليم والتدريس ولا تشغلوني، قالوا: يا شيخ! والله إنا لك لمن الناصحين، أعطنا القرشين الذي عندك نستثمرها، قال: تضمنون أني لا أفكر بها، قالوا: والله هذا يرجع لك، قال: إذاً دعوني، ما جمعت وأنفقت وأكلت واسترحت من همه.

إذاً ما يجمعه من حطام الدنيا مُشغل له لا محالة، وما يجمعه من كنز الآخرة فلا خطر عليه، بل إنه يدعوك إلى المزيد، وشتان بين من اهتم بالآخرة أو ضيعها، هما على سبيل أمثلتنا المنظورة في واقعنا كرجلين أحدهما منح أرضاً مساحتها كيلو في كيلو، فسورها، وحفر فيها بئراً، وغرس نخلاً، وبنى فلّةً، وجملها وزينها، وجعل فيها كل شيء، هل ترون هذا الذي خسر على منحته هذه، وبنى وأنفق من أجلها، هل ترونه يسمح للكلاب أن تدخل داره وقصره، أو استراحته ومزرعته؟

الجواب

لا.

هل ترون أن هذا الرجل يسمح للغادين والرائحين أن يجعلوها مرتعاً لهم؟

الجواب

لا، هل ترونه لا يبالي من جاء أو ألقى عندها من الزبالات والأوساخ ومخلفات البناء؟ الجواب: لا.

والآخر الذي منح مثله كيلو في كيلو ترك المنحة هكذا، لا سورها، ولا غرس فيها نخلاً، ولا حفر بئراً، ولا بنى داراً، ولا جعل مسبحاً، ولا زينها، جاءوا قالوا له: هناك أناس جلسوا فيها، قال: ماذا أصنع؟ جاء آخرون فقالوا: هناك سيارات وضعت بعض المخلفات، قال: سنكلمهم فيما بعد أن أخذوا المخلفات، فلا يهمه الأمر، لأن الذي عمر الاستراحة الأولى والمنحة الأولى، لما أنفق عليها أهمته، فأصبح يخشى عليها ما يُفسدها، ويكبر ما فعل فيها، أما الذي لم يبال بالثانية فلا يهتم أن يُلقي الناس فيها الأوساخ.

فكذلك من عمر الآخرة بالصيام والتعبد والصدقات والجهاد وطلب العلم والدعوة والاستغفار والذكر، وأصبحت آخرته كالاستراحة الأولى، فهو لا يرضى أن تدنو إليها منكرات، أو أن تسكن فيها فواحش، أو أن يتجول فيها فجار، بخلاف الآخر الذي لم يُعمر آخرته، فإنه لا يبالي أن يجلس فيها من جلس، أو يُرمى فيها ما يُرمى، وهذا مثل واضح جلي.

الشاهد أيها الأحبة! أن ذكر الله من أعظم أسباب انشراح الصدر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] فأكثروا من ذكر الله عز وجل، فلا شك أنه من أعظم أسباب انشراح الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم وهذه خصوصية من خصوصية الذكر، ليس الذكر الانقطاع فقط في المسجد، بل كل محاضرة وكل حلقة ذكر من رياض الجنة هي من حِلق الذكر ومن أسباب الذكر، التي هي من أسباب انشراح الصدر بإذن الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه).

فذكر الله -بإذن الله- أنس العبد من الوحشة، ونوره من الظلمة، وسكن للقلب، وهدوء ونجاة وسلامة من القلق والاضطراب، يقول ابن القيم حول الآية الآنفة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] يقول: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) أي: الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يُوجب اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأن إليه القلب) أي: سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.

وفي المقابل الذين ليس لهم من ذكر الله حظٌ أو نصيب، وإنما حظ ذاكرتهم الألبومات جديدة، يتلو ما يسمى بالألبوم الجديد، وأصبح ال