للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإحسان إلى الخلق]

ومن أسباب انشراح الصدر: الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما تستطيع نفعهم به من مالك أو جاهك أو شفاعتك أو بدنك، أو بأي نوع من أنواع الإحسان.

ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان

أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان

إذا هيأ الله لك، وأقدرك الله على نفع إخوانك بمالك أو بجاهك أو ببدنك أو بكلمتك أو بما تستطيعه، فلا تتردد لأمرين: الأمر الأول: تستعبد القلوب بالإحسان فتنال حظاً من الدعاء، والذكر الحسن في الأولين والآخرين: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤] تجعل لك ذكراً حسناً حتى بعد موتك.

يبقى الثناء وتذهب الأموال ولكل عصر دولة ورجال

والثاني: أنك اليوم قادر وغداً عاجز، وأنت اليوم قوي وغداً ضعيف، وأنت اليوم نشيط وغداً ربما تخور القوى، فما دمت ذا مقدرة، وما دمت على استطاعة في نفع العباد فأحسن إليهم، وإني لأعلم من بعض إخواني جزاهم الله خيراً، من يقسم بالله قائلاً: إني لأجد انشراحاً في صدري ونفسي، وأجد لذة إذا هيأ الله أو يسر الله قضاء حاجة مسلم على يدي، أعظم من فرحي وانشراحي بكسب مالٍ قد أدخلته جيبي.

وهذا واضح، بل ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في رسالة قيمة أنصح كل السامعين والسامعات باقتنائها وقراءتها وهي رسالة بعنوان: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ذكر منها الإحسان إلى الناس، والذي يُحسن إلى الناس يعيش عالمياً، يعيش لا لذاته، بل يعيش لغيره، وحينما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة صغيرة وقصيرة ومحدودة، وتبدأ من حيث بدأنا وتنتهي من حيث انتهينا في حدود ملذاتنا، أما حينما نعيش لغيرنا؛ لفكرة أو لهدف أو لدعوة أو لنفع الناس وتعبيدهم لله عز وجل، فإن الحياة طويلة وباقية تبدأ منذ أن بدأ الحق، ولا يفنى الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ما أجمل أن تكون باذلاً ما استطعت في الإحسان إلى إخوانك! والبخيل من بخل بجاهه، فلا يتردد أحد في داره.

إن من أعظم المناقب التي بلغ بها سماحة الإمام العلامة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز وبلغ بها الثريا بين نجوم العلماء، فالعلماء كثير لكن ابن باز شيء بينه وبينهم مرحلة، والسبب أمور عديدة منها: قضاء حوائج الناس، والشفاعة للخلق، ولا يرد أحداً سواءً تجنساً أو إقامة، أو أراد منحة جامعية، أو سداد دين، أو علاجاً في الخارج، أو كفالة داعية أو يتيم، أو إصلاح قضية زوجية كأمور الطلاق، قد فتح الشيخ قلبه قبل بابه، وفؤاده قبل مجلسه، واعتبر نفسه أباً للناس جميعاً، مسئولاً عن كل حوائجهم، فلا يألو جهداً في قضاء حوائجهم ما استطاع، وهذا من مناقبه التي أورثته انشراح الصدر العجيب.

أنا أقول لبعض الإخوان: هل سمعتم أحداً يأتي إلى الشيخ يبشره، لا يأتي إلى الشيخ إلا ويقول: يا شيخ! حصلت مشكلة، يا شيخ! وقعت مصيبة، يا شيخ! حدث منكر، قلّ من يأتي إلى الشيخ ببشارة، أكثر من يأتي إلى الشيخ يشكو حاجةً، أو يريد مالاً، أو يسأل شيئاً، فما الذي جعل هذا الشيخ يتصبر؟ لو آتي لك بواحد بعد كل فريضة يأتي يسلم عليك ويقبل رأسك، هل تصبر؟ تقول: يا أخي! مللنا ضروري تحب دائماً، وتسلم دائماً، وإذا رأيته في الطرف الأيمن تصلي في الطرف الأيسر، وقد تذهب وتصلي في المسجد الثاني، وتأخذ رقم لوحته من أجل أن تعرف سيارته.

من الذي يصبر على الناس؟ يقول ابن الوردي:

نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مدارات السفل

ليس كل من يقابلهم الإنسان من كرام القوم والنبلاء والطيبين الذين يشرف ويفرح ويلذ بمقابلتهم.

لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم طبائع لست تحصيها ولا شان

فمن الذي جعل هذا الشيخ جلداً حتى آخر ليلة فاضت روحه فيها؟ من أعظم أسباب ذلك قضاء حوائج الناس، والجلد على ذلك، والصبر على ذلك، يدخل المستشفى فيحجبون عليه الهاتف، فيقول أعطوني التلفون لا تردوا أحداً عني، يا شيخ! أنت في فحوصات، يقول: أريد التلفون، من له فتوى أنا أجيبه، ومن له حاجة أنا أقضي حاجته، من الذي يتحمل إلى هذه الدرجة؟ أسأل الله أن يخلف على أمة الإسلام بخير منه، وأن يجعل منازله في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

فالإحسان وقضاء حوائج الناس والبذل والجود، كل ذلك من أسباب انشراح الصدر.

مر بنا أحبتي أن الإحسان والكرم، والبذل ولين الجانب وخفض الجناح، والتواضع وقضاء حوائج الناس وتحسس أحوالهم؛ من أعظم أسباب انشراح الصدر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن يُعطي ومن يمنع، ولمن يجود ومن يبخل، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد؛ كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه).

فهذا مثل ينطبق على انشراح صدر المؤمن بالبذل والعطاء، وعلى ضيق حال البخيل بالكف والقبض والمنع، وإذا تأملت ذلك وجدت هذا جلياً، انظر إلى نفسك وقد دعوت إلى وليمة وأكرمت الناس، نعم.

دفعت ألفين أو أكثر أو أقل، لأجل هذه الوليمة لكن انظر إلى انبلاج أسارير وجهك، انظر إلى تهلل وجهك، انظر إلى لذة تجدها في نفسك، يوم أن أصبحت كريماً.

والكرم الحقيقي مثل كرم الشيخ ابن باز أسكنه الله الجنة، أن يكون الباب مفتوحاً للفقير قبل الغني، وللضعيف قبل القوي، وللعامة قبل السادة، وللصغار مع الكبار، هكذا مجلس الشيخ، وكم نصحه أناس يظنون أنهم يحسنون صنعاً في نصحه، فقالوا: يا شيخ! إن شر الرعاء الحطمة، ولقد حطمك الناس، فاجعل لك مكاناً أنت والخاصة تتغدى فيه وتفطر وتتعشى فيه، والضيوف الله يحييهم على حِدَة، قال: لا.

لا تحبسوني ولا تحجبوني عن ضيوفي.

بل تجد الله يحسن إليه -كما يخبرنا الشيخ محمد الموسى مدير مكتبه- يقول: والله ما جاءنا قوم أو ضيوف أو شباب أو غيرهم، إلا وهو يهمس يقول: لعل الأمور على ما يرام! لعل كل شيء كافٍ، عسى أن الناس ما قصروا في شيء، يفرح وينشرح صدره بإكرام الناس، وحسبنا بهذا الشيخ حباً، نسأل الله أن يجمعنا وإياه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

يقول الشيخ محمد الموسى: ذات مرة سلم على الشيخ شابان، وقالا: جئنا من مكان كذا نريد أن نسلم عليك، وكان ذلك في رمضان، فقال الشيخ: أفطروا معنا، قالوا: إن شاء الله، إذ رأى الشابين معهما أتوبيساً فيه خمسون شاباً، والشيخ ظن أنهم قلة، قال: فلما جاء قبيل المغرب دخل علينا هذا الأتوبيس كأنه النقل الجماعي قد اجتمع في ذلك اليوم كله، وملئ مجلس الشيخ، قال: تفاجأنا، فسألنا الشيخ، قلنا: الله يحسن إليك، الإخوان جاءوا بعدد كبير وما كنا مستعدين لهذا، قال: لا تتركوا أحداً يذهب، صلحوا من هذا، وأعطوا من هذا، قال: فمازال الشيخ يتابعنا لحظة بلحظة حتى جلسنا على الإفطار ومُدت الموائد وأفطر الناس، وجلسوا للعشاء وتعشوا، قال: فما رأيت الشيخ إلا كعادته بل زيادة على ذلك، تهللاً وانبلاجاً وانشراح صدر.

البذل والعطاء والكرم والجود من أعظم أسباب انشراح الصدر، فكن كريماً وجواداً وكن باذلاً، وإذا بذلت فاحتسب عند الله المثوبة، بعض الناس يُنفق على أولاده، لكن إذا ذهب يشتري لهم بعض الاحتياجات، يقول لهم: كلوا جعله الله مراً، الله لا يحله لكم ولا يبيحكم، إذاً لماذا تصرف هذا مادام الوضع هكذا؟! يا أخي الكريم! أنفق بروح طيبة، وابذل بنفس سخية، وإذا بذلت فاجعله بذلاً من قلبك بنية صالحة صادقة يخلف الله عليك و (ما نقص مال من صدقة) إنك لا تضع في في امرأتك، أي: في فم امرأتك، وما تنفقه على أولادك إلا يُحتسب لك صدقة عند الله عز وجل، فلا تظن أن الصدقات مجرد إعطاء الفقراء والمساكين، حتى كسوة أولادك وزوجاتك صدقة، وإكرام ضيوفك صدقة، والإحسان إلى جيرانك صدقة، وكل ذلك من الكرم الذي هو من أعظم أسباب انشراح الصدر.