للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشجاعة]

ومن أعظم الأسباب أيها الأحبة! الشجاعة، والشجاعة درجة بين الجبن والجنون، وكثير من الناس يعدون الجنون شجاعة، ويعدون التهور والتعدي شجاعة، وهذا ليس من الشجاعة، بل ذلك قد يُفضي بالرقاب إلى القصاص، أحدهم يقول: لقيت في السجن شاباً جميل المحيا حسن الطلعة، فقلت: ما الذي جاء بك في هذا المكان وهذا العنبر؟ قال لي قصة عجيبة وغريبة، خرجت ذات يوم بالسيارة، فجاوزتني سيارة ثم مال وانحرف صاحبها بسيارته عليّ، فطاش غضبي من هذا الفعل، فذهبت لأرد عليه هذا الفعل، فذهبت أحده يميناً ويحدني شمالاً، إلى أن بلغ الأمر برفع الأصوات ثم فتح النافذة وبصق -أكرمكم الله والسامعين والملائكة- قال: فما كان إلا أن كل واحد منا أوقف سيارته، قال: ونزلت بحديدة أريد أن أعرفه قدره، وليس قصدي أن أقتله أو أعيقه، لا.

لكن أريد أن أضربه ضربة لأهينه جراء ما فعل.

قال: فانطلقت الحديدة فلتة من يدي فأصابته مقتلاً، فمات من ساعته، وذُهب بي إلى السجن، وجلست في المحكمة، وحُكم عليّ بالقتل قصاصاً، وها أنا الآن في هذا العنبر أنتظر بلوغ القُصر الورثة ليقضوا فيّ قضاء الله بما يشاءوا، إما أن يعفو ويقبلوا الدية، وإما أن يطلبوا القصاص.

فهذا ليس من الشجاعة، عندما يأتي مجنون يحدك أو تحده، لو أن كلباً نبح فلا تنبح، ولو أن حماراً نهق فلا تنهق، ولو أن مجنوناً جن فلا تجن، لكن الشجاعة أن تكون في الحق، وفي كلمة الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) هذه الشجاعة يؤجر عليها الإنسان، أو شجاعة في الجهاد في سبيل الله، أو شجاعة في ذب الإنسان عن عرضه وماله: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد).

أما أن يعتبر الإنسان الفزعة شجاعة:

قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

مجرد أن يرى عراكاً يدخل فيه، مثلما ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين، قال: وذكر أن رجلاً رأى قوماً يضربون رجلاً، فجاء يضربه معهم، فأمسك به رجل ثاني، قال: يا فلان! على ما تضربون هذا؟ قال: والله لا أدري، لكن وجدتهم يضربونه فضربته معهم حسبة للأجر، هذا جنون، بعض الناس يفزع في مضاربات عصبية قبلية، أناس من بلد تضاربوا مع أناس من بلد تتحول العنصرية إلى حدود إقليمية وعنصرية وسياسية ودولية.

أناس من قرية يتضاربون مع أناس من قرية، وأناس من قبيلة يتضاربون مع أناس من قبيلة، تتحول إلى مهاترات، وأعرف أكثر من حالة، وبنفسي أشرفت واطلعت عليهم، فأناس حُكم عليهم بالقصاص قتلوا أناساً ليسوا بأعداء لهم ولا يعرفونهم، فقط اشتركوا في (فزعة) يسمونها فزعة وهي جنون، اشتركوا فيما يسمونه فزعات فكان واحد من هؤلاء الذين فزعوا أقرب الناس إلى هذا الذي ضُرب، فكانت الضربة القاتلة بيد هذا الذي فزع، فحكم عليه بالقصاص، وأصل العداوة بين طرفين أحدهم قد خرج منها بريئاً، والذي فزع في هذه المضاربة هو الذي حكم عليه بالقصاص.

فيا أحبابي! الشجاعة درجة بين الجنون والجبن، فينبغي أن نفهم ذلك.

من الشجاعة ألا تخشى من موقف حق بسبب تردد في الموت أو لأجل الموت.

أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر

يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا يجدي الحذر

إذا كنت تعلم أن الآجال بيد الله، والأرزاق بيد الله فلا يضيرك شيء.