للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان حقيقة الدنيا]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى بفعل أوامره واجتناب زواجره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤] قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: سمعت الحسن بعد أن روى من طريق أبي مورود قرأ هذه الآية، فقال: [يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الآخرة]، وفي رواية: [يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة] واختار ابن جرير أن المراد بالآية: مكابدة الأمور ومشاقها.

أيها الأحبة في الله: كلكم يعلم أنه ما من راحة تامة أو سعادة دائمة إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأما هذه الدنيا فدار الابتلاء والكبد والشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش الإنسان فيها في كبد ومشقة، ولولا ما فيها من عبادة الله واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت الدنيا لأهلها من الأكدار والمصائب لركنوا إليها واطمأنوا بها، ولما اجتهدوا في الأعمال الموصلة إلى دار النعيم والخلود المقيم.

قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله: يا أبت! متى الراحة؟ فقال: الراحة يا بني! عند أول قدم نضعها في الجنة.

عباد الله: تأملوا هذه الدنيا وما فيها من خلق الإنسان في كبد، وهي برمتها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك ما سقى منها كافراً شربة ماء، فالاجتماع في الدنيا مآله إلى الفراق، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فنهاية الحياة إلى موت، وغاية الاجتماع فراق، أما اللذات في الدنيا من المآكل والمشارب والمناكح فتزينها الصحة والعافية، وأكثر أرباب الدنيا والأموال الطائلة والثراء الفاحش فيها يعانون أنواع البلاء والأمراض والأسقام، فيرون نعيماً ونعماً، ولذائذ ولذات لا يتمتعون بها، وأعمار الخلائق في هذه الدنيا محدودة الأجل، ورب معمر شقي بعمره سيما إذا كان مفرطاً فيما مضى من شبابه، قيل للأعشى ميمون بن قيس وقد بلغ من الكبر عتياً: كيف وجدت الحياة؟ فقال:

المرء يرغب في الحياة وطول عيشٍ قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره

وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره

كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائلٍ لله دره

فلا أنس ولا لذة في الدنيا إلا بذكر الله، ولا راحة ولا نعيم في الدنيا إلا بطاعة الله، وذلك هو الذي يحقق السعادة ويربطها بالحياة ربطاً وثيقاً، فاجتهدوا يا عباد الله! اجتهدوا في طاعة ربكم ومرضاته، وتنافسوا في الأعمال الصالحة والتجارة الرابحة، ولا تغبطوا أحداً في مال أو منصب أو جاه إلا في طاعة الله ومرضاته، وما سوى ذلك فحطام غير حقيقي، وليس بكفء أن يحسد صاحبه، واعلموا أن كل من ترون في هذه الدنيا شقي لا محالة إلا من ربط نفسه بذكر الله وطاعته، لابد أن ترى كثيراً من الخلق والخلائق في شقاء؛ إما بأنفسهم، أو بأموالهم وأولادهم، أو سلطانهم، أو فقرهم أو غناهم، أو ذلة أو عزة، أو غير ذلك، إلا من شدَّ وثاق نفسه عن المعاصي والآثام، وأحكم السير وجد في المسير وأمسك بالزمام، وإلا فهذه الدنيا ومن فيها كما يقول القائل:

كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن

عباد الله: إن بعض المسلمين قد انشغلوا باللهو عن ذكر الله، وغرهم إقبال الدنيا عليهم، وخدعهم تردد خلان الرخاء والغناء إليهم، وما تأملوا حقيقة دنياهم، وما تأملوا حقيقة النعيم الذي فيها، وأنه زائل، وأنه دولة بين الناس يتقلب، يكون عند قوم وينتقل إلى آخرين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] وكأن الكثير منا ما سمعوا وما عرفوا أحوال الأمم السابقة والحاضرة في هذا الزمان كيف هوت وسقطت من عز إلى ذل، ومن قوة إلى ضعف، ومن غنى إلى فقر، ومن شمل مجتمع إلى شتات وتشرد وتفرق.

قالت هند بنت الملك النعمان: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكاً، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس.

وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجو مالنا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا ويرحمنا مما نحن فيه.

قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يوماً، فقلت لها: كيف ترين الأمر بكم؟ فأنشدت قائلة:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصفُ

فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرفُ

قال صلى الله عليه وسلم: (حق على الله ما رفع شيئاً إلا وضعه) فلا تغتروا بالدنيا -عباد الله! - وكونوا منها على حذر، وخذوا حذركم في كل صباح ومساء، فإن الإنسان لا يدري ماذا يفجأه من طوارق الزمان.

يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

وقال الآخر:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يُغر بطيب العيش إنسان

هي الحياة كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمان

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.