للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إبراهيم عليه السلام قدوتنا في البراءة من الكافرين]

إن موقف إبراهيم عليه السلام في براءته من الشرك وأهله لموقفٌ حريٌ بالتأمل والتدبر كما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: لا تصفو الموالاة إلا بالمعاداة، وكما قال تعالى عن إمام الحنفاء أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٧٥ - ٧٧] فلم تصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة، أعني: من الكفار، فإنه لا ولاء إلا لله، ولا ولاء إلا بعد البراءة من كل معبود سواه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:٢٦ - ٢٨] أي: جعل هذه الموالاة والبراءة من كل معبود سوى الله عز وجل كلمةً باقيةً يتوارثها الأنبياء بعضهم عن بعض وأتباع الأنبياء يتوارثونها أيضاً، وهي كلمة: لا إله إلا الله، ولم يخش منهم، ولم يخش مقاطعتهم، ولم يطلب عندهم شيئاً من العزة، فاستحق عليه السلام بالتزامه بعقيدة الولاء والبراء أن جعله الله أمَّة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠] وجعله الله إماماً يقتدى ويتأسى به: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:٤].

وبلغ من براءة إبراهيم عليه السلام من المشركين وشركهم أنه فارقهم ببدنه كما خالفهم بقلبه وعقيدته، كما أخبر عنه تعالى بقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [مريم:٤٨] أي: سأجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وأدعو ربي أي: أعبده وحده لا شريك له عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً، فانظروا إلى تضحية إبراهيم بالوطن، وتضحيته بمراتع الصبا من أجل الولاء والبراء، وانظروا إلى تضحيته بالقرابات والوشائج والصلات من أجل الولاء والبراء، فأورثه الله بركةً وخيراً، وعوضه الله عز وجل بها بدلاً من الخلطة السيئة للمشركين ولده إسحاق وولده يعقوب، وأنعم عليه في ذريته بالنبوة، كما قال تعالى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:٧٢] وقال مبيناً عقبى وبركة الفرار في الدين لما اعتزلهم، لما حقق الولاء لله والبراء من المشركين من قومه: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} [مريم:٤٩].