للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار

وهناك موقف حصل في غزوة حنين: عندما نصر الله جل وعلا نبيه وأعطاه الغنائم فقسمها صلى الله عليه وسلم على أقوام حديثي عهد بالإسلام؛ يتألف بها قلوبهم صلى الله عليه وسلم، فلما علم الأنصار بهذا وكانوا أعظم الجيش أصابهم شيء في أنفسهم، وقد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الوضوح، فأخذوا يقولون: كيف يعطيهم ويتركنا ونحن الذين نصرناه، ونحن أكثر الجيش إلى غير ذلك؟! وكان صلى الله عليه وسلم واضحاً مع أصحابه كالشمس، فجاءه سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟)، فأخبره الخبر فقال عليه الصلاة والسلام لـ سعد: (وأنت يا سعد؟!)، يعني: ما هو رأيك الشخصي؟ قال: يا رسول الله! وهل أنا إلا رجل من قومي، فقال: (اجمع لي الأنصار في هذه الحظيرة)، والحظيرة: مكان مسور، فجمعهم سعد رضي الله عنه، وأقبل عليهم نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وهم مجتمعون أوسهم وخزرجهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتيكم ضُلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟)، وأخذ يبين فضل نبوته عليهم، وهم يرددون ويقولون: لله ورسوله المن والفضل، وكلما قال قولاً، قالوا: لله ورسوله المن والفضل، ثم قال: (أجيبوني يا معشر الأنصار!)، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله! لله ورسوله المن والفضل؟ قال: (أما إنكم لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، ومخذولاً فنصرناك، ومحروماً فأعطيناك)، وكلمات نحوها فسكتوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! أوجدتم عليّ في أنفسكم لعاعة -يعني: سراباً- من الدنيا أوكلت بها أقواماً رجاء أن يسلموا، وأوكلتكم إلى إسلامكم، والله لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، الناس دثار والأنصار شعار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار!)، فبكوا رضي الله عنهم وأرضاهم حتى بللوا لحاهم؛ لأن نبي الأمة يقول لهم: (أما ترضون يا معشر الأنصار! أن يعود الناس بالشاء والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟)، فقالوا بلسان رجل واحد: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً.

وهذا من أعظم ما أعطاه الله لهذه الفئة المباركة، وقد علم النبي أنه سيؤثر عليهم بعده، بل قال لهم عليه الصلاة والسلام: (أما إنكم ستجدون أثرةً بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، يعني: الحوض المورود، وهذا من تعلقهم بالإيمان الذي في قلوبهم، والآن لو قلت لواحد من أهل الدنيا: اصبر والموعد الحوض لتذمر ولما رضي بذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لعلمه بعظيم إيمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، هذه منازل بلغنا الله وإياكم إياها.