للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يشتت طالب العلم نفسه]

كذلك من الجانب العملي: أن لا يشتت طالب العلم نفسه، وكثير من الفضلاء ممن اختلطنا بهم أو رأيناهم أو أشرفنا عليهم لا ينقصهم ذكاء، ولا جلد على طلب العلم، ولا نية صادقة، فيما يظهر لنا، صحيحة نواياهم، وعظم صبرهم، واشتد ذكاؤهم، ومع ذلك لم يبلغوا حاجتهم، والله جل وعلا خلق أسباباً ورتب على تلك الأسباب نتائج، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] فإذا تأملت في نفسك، أو فيمن حولك تجد أن بعض الفضلاء يشتت نفسه، ولا يجمعها، يريد أن ينجز كل شيء، ومن يريد أن ينجز كل شيء لم ينجز شيئاً، ومن يريد أن يجلس ليقول كل شيء لم يقل شيء.

إن مما أضاع طلبة العلم أنهم يشتتون أنفسهم، فيأتي طالب العلم يريد أن يشرف على حلقة التحفيظ، ويريد أن يرتب لقاءات مع المشايخ، ويريد أن يقوم بخدمة المشائخ ذهاباً وإياباً، ويريد أن يقيم احتفالات لأهل حيه في المناسبات الدينية، ويريد أن يقود حملة في الحج، ويريد أن يرأس لجنة توزع الإعلانات، ويريد أن يفعل هذا كله، الجمع بين هذا وطلبه للعلم وهذا محال، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:٤].

وسأضرب مثلاً بسيطاً، وقبل أن أضرب المثل اعتذر بأن المثل بسيط جداً، لكن أنا رجل من الله عليه بالتعلق بالقرآن، فلا أجد غضاضة أن أقول المثل؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:٢٦]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:٧٣] ضرب الله مثلاً بالذباب لئلا يأتي أحد يسأل ما هو الذباب؟ فالذباب يعرفه كل أحد، فالمثل لا بد أن يكون قريباً من الناس.

المثل هو أن الهر الحيوان المعروف الأليف يقول صلى الله عليه وسلم عنه: (من الطوافين عليكم والطوافات)، فلو حجزته في مكان ضيق، وأردت أن تؤذيه فأراد أن يتخلص منك، أول شيء يعمله ينكفئ على نفسه، أي: يجمع نفسه ثم بعد ذلك يفر عنك، فقبل أن يفر عنك يجمع نفسه، جمعه لنفسه ترتيب منطقي عقلي هو الصحيح، لم ينجز حتى يجمع نفسه.

فإذا شتت مطالبك وتنوعت أهدافك وغاياتك ضاعت كلها وأنت شخص واحد، الإشراف على التحفيظ قربة من القربات، وسبيل عظيم إلى رحمة رب العالمين، ومنارة من منائر الدين، وشعيرة من شعائر الإسلام، وتعليق الإعلانات دعوة إلى الله، وقيادة الناس في الحج من أعظم السبل إلى رحمته، لكن محال أن يأتي إنسان واحد بهذا كله.

والعلم يحتاج في مراحل العمر الأولى، وفي مراحل الطلب إلى جمع، وإلى تدوين، وإلى مراجعة، فلسنا أنبياء يوحى إلينا، كل أحد غير الأنبياء مطالب أن يجمع العلم ويثني الركب، ويحرر ويراجع، وهذا يحتاج إلى مساحة من الوقت، فإذا ذهب الوقت في أمور كثيرة، والذهن اشتغل بعدة أمور لن ينجز شيئاً، فطالب العلم مطالب أن يحدد هدفه، ولا يعني ذلك أنه يحارب أو يعادي إخوانه الذين على تلك الثغور، هذا خطأ عظيم، وسوء ظن بالمسلمين، وعدم معرفة بالشرع، لكن كل ميسر لما خلق له.

أيها المبارك، أيتها المباركة: أول الأمر حدد الهدف، ثم لا بد من سنين تمضي حتى تصل إلى هدفك، فإذا حددت الهدف والغاية، ثم صبرت ستصل بإذن الله ورحمته إلى غايتك، لكن لا يعني ذلك أن تفر من هذه الأمور إذا وقعت عارضة، فلا يستنكف المسلم أن يسلم في نشر الإسلام في شيء، فمرة تذهب مع زملائك في حلقة التحفيظ إلى رحلة، أو تأتيهم بعد مغرب أو عشاء تعظهم، ومرة تلصق إعلاناً، ومرة تستضيف شيخاً، المقصود أن الدأب العام، الذي تتولاه في أكثر أوقاتك ينبغي أن يكون محدداً واضحاً بيناً لك، حتى لا تتشتت بك السبل، ولا تحتار في سلوك الطريق.

فالأمر الذي يحول بينك وبين هدفك ولو كان صواباً تجنبه، والأمر الذي لا يحول بينك وبين هدفك، ولا يؤخرك من الوصول إلى غايتك فلا بأس أن تأخذ منه بطرف، وبشيء يسير دون أن يكون ملتصقاً بك التصاقاً كلياً، وهذه مسألة يجب التنبه لها، وأنت تطلب العلم.