للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توحيد الله ومعرفته وتقديره حق قدره]

أولى هذه اليقينات وهن سبع: أن يعلم الإنسان أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه خلق خلقه وهداهم النجدين فمنهم قريب ومنهم بعيد، وأنه جل وعلا خلقهم وسخرهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد.

وأن الأمر أمره، والخلق خلقه، والكل عنده عبيد قهر وذلة شاءوا أم أبوا.

وفي الحديث القدسي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله جل وعلا: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.

يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.

يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.

يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.

يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.

يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل ذي سؤل مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إذا أدرك المؤمن هذا يدرك أنه لا عز إلا بالتذلل لعظمته، ولا فوز إلا في طاعته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له مع توحيده وحبه جل وعلا.

هذا ربنا تبارك وتعالى خلقنا وهو غني كل الغنى عنا، فمن تعامل مع الله وهو يعلم أن الله قادر على كل شيء، وأنه إن اهتدى فبفضل من الله ونعمة، وإن ضل فبعدل وبما جنت يداه، وتعامل مع الله على أن الله مطلع عليه، إن قدم الحسنى فسيجازيه عليها، وإن عمل السيئة فسيجازيه عليها إن لم يغفر له؛ كان هذا من أعظم طرائق الوصول إلى الصلاح.

والإنسان إذا كان لا يعلم ربه فلن يحسن التعامل معه، ولذلك عرف الله جل وعلا بذاته العلية في آياته وعلى ألسنة رسله، وبين لرسله كيف يعرفون بربهم ويدلون الخلق على خالقهم حتى يحكموا عبادته تبارك وتعالى، يقول سبحانه بعد أن عرّف بذاته العلية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].

فما من شيء إلا وخزائنه بيدي الله، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يقبض ويبسط، يعز ويذل، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

وأعظم الناس فرحاً بربهم وصلاحاً في أعمالهم هم أعلم الناس بربهم جل وعلا، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن روح العبودية يتمثل في محبة الله تبارك وتعالى، قال العلماء: إن المحبة كلما عظمت في القلب كان التوقير لله أعظم، وكان الإنسان إلى الطاعة أكثر إقبالاً وكان الأنس والسرور بالله جل وعلا أكمل.

قال ابن القيم رحمه الله: من قرّت عينه بالله قرّت له كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.

فالمؤمن لا تقر عينه بأعظم من رضوان الله تبارك وتعالى عليه، وهو يعلم أن الله جعل الدنيا مراحل مطوية يبتلي ويختبر عباده فيها، حتى إذا قام الأشهاد وحشر العباد أدخل الله جل وعلا في رحمته أهل الصلاح الجنة، وأدخل أهل النار النار، كما أن المؤمن يعلم عن ربه جل وعلا أنه خالق الأسباب وخالق مسبباتها، فلا يكون شيء إلا إذا أراداه الله، ثم هذا الشيء - مما أحبه الله ومما كرهه - إذا وقع يكون بإرادته تبارك وتعالى.

لما تعطلت الأسباب عند زكريا طلب من الله الولد، فلما بشره الله بالولد تعجب قائلاً: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران:٤٠] فجاء الجواب القرآني: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:٤٠].

ولما انتفت الأسباب في قصة مريم وأخبرتها الملائكة بأن الله سيرزقها الولد تعجبت قائلة: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:٤٧] فكان الجواب الإلهي: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٤٧].

فهذه يا أخّي! أول الحقائق وأعظم اليقينيات وأجل المدركات أن تعلم هذا العلم عن ربك تبارك وتعالى حتى يتيسر لك بعد ذلك أن تكون عبداً صالحاً.