للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوحيد منجاة للعبد في الدنيا]

أيها المؤمنون! كما أن التوحيد من أعظم المنجيات في الدنيا والآخرة، فإن توحيد الله جل وعلا من أعظم ما يحقق به المرء مقصوده في الدنيا والآخرة، وإذا كانت الجنة تنال بالتوحيد فمن باب أولى أن ينال ما في الدنيا من أماني وغايات بتوحيد الرب تبارك وتعالى، وإذا كانت الجنة تنال بتوحيد الله، فإنما أماني الدنيا أهون وأقل شأناً من نعيم الجنة، فدل ذلك عقلاً ونقلاً على أن كل غايات الدنيا تنال إذا أذن الله جل وعلا بتوحيد الرب تبارك وتعالى، وللعلماء في تفسير قول الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف قال: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢] أوجه منها: أن يوسف عليه الصلاة والسلام استعجل الخروج والفرج، فقال للغلام الذي غلب على ظنه أنه سينجو: اذكرني عند ربك، أي: عند الملك، {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:٤٢] أي: فعل يوسف خلاف الأولى، واتخذ سبباً وان كان مشروعاً إلا أنه كان لا ينبغي له وهو نبي أن يصنع ذلك، فقال الله جل وعلا: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢].

وهذا كما قلت: أحد أوجه التفسير، وبعض العلماء يرده، لكننا نستأنس به هنا ولا نجزم به، والغاية من ذلك أن تعلم أن كل مطلوب إنما يتحقق مع الأخذ بالأسباب بصدق التوكل على الله الواحد الغلاب.

إذا كان المؤمن يعلم يقيناً أنما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه، وأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨].

وان الله جل وعلا انطق الصبي في مهده حتى يبين براءة جريج رحمه الله كما في حديث جريج في الصحيح.

والمقصود من هذا كله: أن الإنسان إذا حسن ظنه بالله جل وعلا، وعظم يقينه بالرب تبارك وتعالى، يسر الله جل وعلا له الأسباب التي تحقق له مطلوبه، ولم يكله الله جل وعلا لا إلى نفسه -أي: إلى نفس الرجل- ولا إلى غيره، وإذا أراد الله بعد رحمه نجاه الله جل وعلا من كل سوء, وهيئ الله جل وعلا له أسباب التمكين، ألم يقل الله عن ذي القرنين: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:٨٣ - ٨٤].

فالفاعل يعود إلى الرب جل جلاله، ولولا تمكين الله له لما استطاع أن يخطوا في الأرض خطوة واحدة، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:٨٤ - ٨٥].

فهيأ الله جل وعلا له الأسباب، ثم هداه الرب تبارك وتعالى لأن يأخذ بالأسباب حتى بلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

والمقصود جملة: أن توحيد الله جل وعلا به تتحقق الغايات، ويحصل المأمول، وهذا الذي ينبغي على المرء تحقيقه في قلبه قبل أن يحققه بجوارحه وفي ملأ الناس.

والعبد يبتلى ويختبر كما اختبر كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه لما كان ما كان من أمره في غزوة جيش العسرة، لما مُنع بقدرة الله من الذهاب مع الجيش، فكانت الأيام التي أجل النبي صلى الله عليه وسلم كلامه معه، وأرجى أمره إلى الله، فجاءه رسول من ملك الروم، وهذا كله ابتلاء واختبار، يقول فيه ملك الروم: إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك فألحق بنا نصلك, فقدم التوكل على الله على مغريات الدنيا، ونجح في الابتلاء، وأخذ الخطاب وألقاه في التنور فاحترق، فما هي إلا أيام معدودات وليالي متتابعات وإذا بمناد يناديه يا كعب بن مالك! أبشر قد فرج الله جل وعلا عنك.

وهذا كله من تحقيق التوحيد والاعتماد على رب العالمين جل جلاله، والله جل وعلا يبتلي ويختبر؛ حتى لا يصل إلى غاياته ولا إلى مراده الشرعي إلا من ابتلاه الله جل وعلا وامتحنه وخلص منه كما يخلص الذهب من كير الحديد.