للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علو بني إسرائيل وإفسادهم]

الوقفة الثانية: مع قول الله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٤ - ٨].

إن الله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، والقيادة الروحية للعالم توارثتها أمم عبر التاريخ كله، وآخر الأمم التي حملت القيادة الروحية بنو إسرائيل أتباع الملة اليهودية، ثم أورث الله جل وعلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيادة العالم روحياً -أي: ديناً وإيماناً- ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم.

ووجه الارتباط بين قوله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١]، وقوله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤] أن الله جل وعلا يخبر أمة اليهود على وجه الخصوص، وكل من يقرأ القرآن على وجه العموم بأن الله جل وعلا بعث نبياً أمياً جعله وجعل أمته قادة للعالم؛ لأن خليل الله جل وعلا الذي لم تبقَ أمة إلا انتسبت إليه وتشرفت به قال الله تعالى عنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:٦٧].

وجمع الله له أرضين مباركتين، فوفاته كانت في أرض المقدس، وهو الذي بنى الكعبة، وأورث الله جل وعلا هذه الأمة أن بعث نبيها من مكة، ثم أسرى به إلى المسجد الأقصى ليأخذ إرث إبراهيم في المسجد الأقصى كما أخذ إرث إبراهيم مولداً في مكة، وليأخذ ما بينهما، فكانت هجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم في مدينته عليه الصلاة والسلام، فحاز عليه الصلاة والسلام المجد كله من جميع أطرافه الثلاثة.

وقد اختلف العلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً سلفاً وخلفاً مفسرين وغير مفسرين فيما قاله الله جل وعلا في هذه الآيات، فالله تبارك وتعالى أخبر هنا: أن هناك علوين لبني إسرائيل وإفسادين، ويتبعها قهر ودحر مرتين، فقال جل ذكره: ((وإن عدتم عدنا)) وسأنقل أقوال العلماء إجمالاً، وبذلك نكتفي؛ لأننا لا نستطيع أن نرجح؛ لأن المسألة ليست بذات البيان الصحيح الصريح الواضح الذي نقدر على أن نرجّح فيه؛ لأنها لو كانت واضحة صريحة صحيحة بينة لما اختلف الناس من قبل فيها مع الاتفاق على أن هناك إفسادين لليهود، ودحراً لهم مرتين.

فقد قال فريق من العلماء -وعليه أكثر من فسر القرآن من السابقين-: إن كلا الإفسادين تم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فعند هؤلاء أن قول الله جل وعلا ((وإن عدتم عدنا)) معناه أنهم أفسدوا في الأول، فسلط الله عليهم، ثم علوا وأفسدوا فسلط الله عليهم، ثم جعل الله منهم أنبياء كموسى وعيسى ويوشع بن نون، ثم إنهم بعد ذلك عادوا للإفساد، فسلط الله جل وعلا عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأجلاهم النبي عن المدينة، ثم أجلاهم عمر رضي الله عن من أرض تيماء.

وقالوا: إنهم عادوا للإفساد في هذا العصر، فسلط الله جل وعلا عليهم النازي (أدولف هتلر) القائد الألماني المعروف، فحرقهم وأبادهم وأكثر القتل والتحريق فيهم، قالوا: هذا مصداقٌ لقول الله جل وعلا: ((وإن عدتم عدنا)) أي: إن عدتم للإفساد عاد الله جل وعلا لتسليط خلقه عليك.

وقال آخرون: إن الإفساد الأول تم في أيام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهرهم الله على يد (بختنصر).

والإفساد الثاني: ما هو حاصل اليوم في أرض بيت المقدس.

وإن هلاكهم مرة أخرى سيكون على يد المسلمين، قريباً كان أو بعيداً عاجلاً أو آجلاً، فعلى يديهم يكون قهر اليهود وإخراجهم من بيت المقدس، كما قال الله جل وعلا: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٧]، ويرد على هذا التأويل إشكالان: الإشكال الأول: أن الله جل وعلا قال عنهم: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:٥] و (بختنصر) لم يكن مسلماً حتى يقال فيه: إنه من عباد الله، أي: الطائعين.

والإشكال الثاني: كيف يفسر قول الله جل وعلا: ((وإن عدتم عدنا))؛ لأننا إذا قلنا إن إخراجهم مرتبط بخروج المهدي وقيام الساعة فإنه لا يصبح هناك أمل في أن يعودوا للإفساد بعد الإفسادين العظيمين اللذين أخبر الله عنهما.

وقال آخرون: إن كلا الإفسادين والظهور لبني إسرائيل لم يقعا بعد، وإن هذا الذي نحنُ فيه من احتلال اليهود اليوم لأرض المقدس هو الإفساد الأول، ثم يقدر الله للمؤمنين إخراجهم منها، ولكنهم لا يخرجون إلا من الضفة الغربية فقط، ويعودون إلى تل أبيب، ثم يعودون مرة أخرى بنصرة الغرب لهم فيفسدون في الأرض ويخرجون المسلمين، ثم يقع مرة أخرى علو المسلمين عليهم فيكون إخراجهم من المسجد الأقصى؛ لقوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:٥ - ٦]، إلى أن قال: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧].

وقال آخرون بالتوقف، وهذا هو الأظهر، ويؤيده أن الله جل وعلا قال في آخر السورة: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:١٠٤]، وقد كان السابقون من المفسرين يقولون: (اسكنوا الأرض) أي: مصر وبلاد الشام، وهذا عندي بعيد؛ لأن الله قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:١٠٤]، ومن تأمل تاريخ اليهود يعلم أنهم كانوا قبل أن يجتمعوا في إسرائيل عام (١٩٤٨) من الميلاد، كانوا متفرقين في أنحاء الأرض، فلما أقيمت دولة إسرائيل زحفوا من كل بقاع الدنيا، حتى إنه من اليمن وحدها خرج أربعة آلاف يهودي، وخرج من يهود الفلاشا من أرض الحبشة ومن يهود الدونمة من أرض الروس وغير ذلك من أصقاع الأرض عدد كثير، مصداقاً لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:١٠٤].

وقد قلت: إن كل قول يدخل عليه إشكال فنرى التوقف في الآيات، ولكن الله جل وعلا مُظهر دينه، ومبلغ رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد كتب الله لنبيه التمكين وزوى له الأرض، وسيبلغ ملك أمته ما زوى الله جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم منها.