للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لطائف قرآنية في إعجاز القرآن]

فالقرآن العظيم فيه من البلاغة وفيه من الإعجاز ما يحتوي على الإعجاز في لفظه والإعجاز في معناه، فكما يخبر الله عن المنن إظهاراً أحياناً يخبر عنها جل وعلا من باب الإضمار أحيانا.

فالإظهار يكاد يعرفه كل أحد، وما أضمره الله جل وعلا من منن على بعض عباده هو الذي يتنبه له العلماء ويسابق فيه الأخيار الذين من الله عليهم بقدرته بأن يتدبروا كلام ربهم تبارك وتعالى.

فمن دلائل إعجاز القرآن: أن الله ذكر في كتابه المشرق والمغرب، ذكرهما مفردين، وذكرهما على هيئة التثنية، وذكرهما على صيغة الجمع، وكل ذكر لهما كان يحاذي السياق العام الذي جاء فيه، فلما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة -وهو حق مطلق له تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد- قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:١١٥]، فأفرد الله ذكر المشرق، وأفرد ذكر المغرب، ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه، والتبتل إليه، وذكر وحدانيته، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:٨ - ٩].

فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الإفراد؛ لأن السياق والمنحى العام للآيات يتطلب هذا، ولا ملزم على الله فلما خاطب الله الثقلين الجن والأنس، فقال جل ذكره: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٤ - ١٦]، وكان الخطاب للاثنين ثنى جل وعلا المشرق والمغرب، ولم يذكرهما مفردين، فقال جل ذكره: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٧ - ١٨].

ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا صلى الله عليه وسلم، واختلافهم فيه -أي: القرشيين- فهذا يصدقه، وهذا يكذبه، والمكذبون له منهم من يقول: إنه مجنون، ومنهم من يقول: إنه ساحر، ومنهم من يقول: إنه كاهن، ومنهم من هو متوقف فيه، لما ذكر تعالى ذلك قال جل ثناؤه وتبارك اسمه: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:٣٧ - ٤٠]، فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني السياق العام والمنحى الذي جاء في الآيات، أي: لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن وفي فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني مفرقاً: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:٤٠]، وما يقال عن هذا السياق يقال كذلك عن التقديم والتأخير في كلام رب العزة جل جلاله.

فقد ذكر الله جل وعلا أولي العزم من الرسل في سورتين من كتابه هما الأحزاب والشورى، فقال في الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:٧]، فلما ذكر الله جل وعلا فضيلة الرسل بدأ بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليه، فقدمه، ثم ذكر الأنبياء بحسب ظهورهم التاريخي فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:٧]، فعلى هذا الترتيب كان ظهورهم التاريخي.

فلما أراد الله ذكر الدين بيان أن الدين قديم قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الله بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما بدأ بنوح؛ لأنه أول من بعث بالرسالة، وأول رسل الله إلى أهل الأرض، فقال جل ثناؤه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:١٣]، فذكر الله جل وعلا أول الرسل، ولم يذكر أشرفهم وسيدهم؛ لأن الكلام عن الدين، وليس الكلام عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الوصية والدين، والفقهاء متفقون على أن الدين مقدم في إنجازه على الوصية، ومع ذلك قال الله تبارك اسمه وجل ثناؤه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:١٢]، فقدم الوصية على الدين؛ لأن الدين يوجد من يطالب به، وأما الوصية فالغالب أنه لا يعلمها الفقراء، فلا يطالبون بها، فقدم الله جل وعلا ما حقه الاهتمام على ما يمكن تأجيله وإرجاؤه.

وهذا كله مندرج في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي كما هو معجز في معناه، ولا ريب في أنه كتاب من عند رب العالمين، فلا غرو ولا عجب أن يكون بهذا الأمر.