للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع قول الله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)]

الوقفة الثانية مع قول ربنا تبارك وتعالى -وهو مندرج في الوقفة الأولى-: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:٦ - ٨] أخبر الله فيها أنه جعل النجوم في السماء لأمور ثلاثة: ثنتين في هذه الآية: الأولى: أنها زينة، والثانية: حفظاً من كل شيطان مارد، والثالثة: جاءت في سورة أخرى قال الله جل وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:١٦].

ثم نقف مع قول الله جل وعلا: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:٧ - ٨] وهذا يدخلنا في الحديث عن الجن.

الجن أيها المؤمنون خلق من خلق الله، ولكونهم عالم غيبي فإن الحديث عنهم تكتنفه دائماً الأساطير، والأمور ذات الرعب والخوف، ولذلك جرت العادة عند العامة أن يختبروا شجاعة الرجل بأن يحدثونه عن الجن، فإن صبر قالوا: هذا رجل شجاع، وإن بقي يرتعش أو أصابه الخوف، قالوا: هذا رجل فيه خوف؛ لأنه يخاف من الجن، والصواب أن يقال: إن الجن بالنسبة لنا عالم غيبي لم نره؛ ولذلك سموا بالجن لأنهم مستترون، ولذلك يسمى الجنين في بطن أمه جنيناً لأنا لا نراه، وسميت الجنة جنة لأننا لم نرها، والله جل وعلا قال في القرآن: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:٧٦] أي أظلم واستتر وغطى ما فيه، فهذا سبب تسميتهم بالجن، والظاهر أن أباهم إبليس عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وإبليس كما هو معلوم خلق من نار، ولذلك فيهم الطيش؛ وهؤلاء الجن مكلفون بالأوامر والنواهي كبني آدم قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨] وهؤلاء الجن لديهم كما لدى الملائكة القدرة على التشكل، لكن قال العلماء: إن الفرق في قدرة الملائكة وقدرة الجن على التشكل أن الملائكة لا تحكمهم الصورة بخلاف الجن فإنه تحكمهم الصورة، وبيان هذا لو أن عبداً من عباد الله قابل جنياً في صورة أي مخلوق في صورة قط، أو في صورة كلب، أو في صورة حية، أو في أي صورة كانت فقتل ذلك العبد ذلك الجني في صورته وأصابه في مقتل فإن الجني يموت لأن الصورة تحكمه، ولذلك روى مالك في الموطأ أن أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان حديث عهد بعرس فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أن يذهب إلى عرسه أي إلى زوجته، فلما ذهب ذلك الصحابي وجد امرأته خارج باب الدار فأخذته الغيرة فسل سيفه يريد أن يعاقبها، فأشارت إليه أن ادخل الدار، فلما دخل الدار فإذا بحية قد طوقت سريره أو فراشه، فضربها بالسيف فلا يدرى أيهما أسبق موتاً ماتت الحية ومات ذلك الصحابي، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في المدينة إخواناً لكم من الجن عوامر) أي يعمرون البيوت (فحرجوا أو استأذنوا عليهم ثلاثاً) والمقصود أن الصورة التي يتلبس بها الجني تحكمه في قضية حياته أو في قضية موته والله تعالى أعلم، هذا بعض ما علمناه، أو ما اطلعنا عليه من أقوال أهل العلم رحمهم الله أحياء وأمواتاً، والجن لديهم قدرة قوية على القيام بمشاق الأمور، ولذلك سخرهم الله لنبيه وعبده سليمان عليه الصلاة والسلام، قال تبارك وتعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:٣٦ - ٣٧] ومعلوم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أراد ممن حوله أن يأتوا بعرش بلقيس، قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣٨] فحكى الله في القرآن قول عفريت من الجن: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:٣٩] فهذا دلالة على ما أوتي هؤلاء الجن من قوة وسلطان، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الجن لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً.

ولما كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها، فإن الجن كانت في السابق لها مقاعد في السماء يسمعون ما تتذاكره الملائكة من وحي الله جل وعلا، فينزلون بتلك الكلمة إلى الناس ويعطونها إلى الكهنة الذين يتعاملون معهم فتزيد عليها الكهنة بعضاً من الكذب فينتشر هذا الأمر بين الناس ويصدقونه، فلما أراد الله أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ملأت السماء حرساً وشهباً حتى لا يستمع الملائكة شيء فيدخلون على القرآن ما ليس فيه، وهذا من حفظ الله لدينه، ومن حفظ الله لكتابه، ومن إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإن أردت الدليل على ذلك فاقرأ قول الله جل وعلا في سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا} [الجن:٨ - ٩] أي في السابق {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:٩] أي بعد البعثة {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:٩] فهذه الشهب تقذف أولئك الجن حتى لا يسترقون السمع وحتى لا يسمعون شيئاً من وحي الله إلى ملائكته، ولا مما تتذاكره الملائكة مما يخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا فيه إكرام لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه.

ولما رأت الجن هذا استغربت، وقيل: إنهم ذهبوا إلى أبيهم إبليس فأخبروه، فقال: انصرفوا في الديار وتفرقوا في الأمصار فإن هذا لا يحدث إلا لنبأ عظيم، فجاءوا فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه القرآن، فقالوا: هذا الذي منعنا من أجله، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإن منهم مؤمنين ومنهم كافرين، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:١١]، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:١٤] ففيهم مؤمنون وهم قلة، وفيهم كفار وهم كثرة، وهؤلاء الجن بما أنهم مكلفون فإنه على الصحيح من أقوال أهل العلم أنهم يثابون ويعاقبون، قال الله جل وعلا: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:١١٩] وأما هل يدخلون الجنة أو لا يدخلون فالمسألة خلافية عند العلماء، لكن الصواب والله تعالى أعلم أنهم يثابون على ما ندين الله جل وعلا به، قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن:١٤] والجن الذين صرفهم الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما صرح الله بذلك في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:٢٩] آمنوا برسولنا صلى الله عليه وسلم، وانطلقوا -وهم جن- دعاة إلى الله، يدعون إخوانهم من الجن إلى دين الله تبارك وتعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:١ - ٢] ثم هؤلاء الجن المؤمنون قيل إنهم تأدبوا مع الله في موضعين صريحين ذكرهما الله في كتابه: الأول تصريحاً، والثاني تلميحاً، فأما التصريح فإن الله جل وعلا أخبر عنهم أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:١٠] فانظر إلى أدبهم مع الله، الشر نسبوه إلى غير فاعل.

أما الخير والرشد والصلاح فنسبوه إلى رب البريات تبارك وتعالى فقالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:١٠]، وأما الموقف الثاني فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على إخواننا من الجن سورة الرحمن، ومعلوم أن سورة الرحمن تكرر فيها قول الله جل وعلا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣] والخطاب للجن والإنس، فورد أن الجن لما قرأ عليهم رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الآية كانوا يقولون: لا نكذب بأي من آلاء ربنا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإخواننا من الصحابة: (ألا تقولون كما قالت إخوانكم من الجن: لا نكذب بأي من آلاء ربنا).

أما قضية دخول الجني في الإنسي فلا نريد أن نفصل فيهما لكن نقول: إن هذه المسألة خلافية بين العلماء، ولعل الأرجح والأظهر والله تعالى أعلم أن الآثار وردت أنه بالإمكان أن يدخل الجني في الإنسي، لكن الذي لا يُصدّق ولا يمكن أن يُصدّق ما ظهر في هذا الزمان من أن الناس نسبت كل بلاء إلى الجن، حتى لو أن رجلاً لا يفقه في دين الله شيء وفتح باب داره وأحضر بعضاً من الماء وقليل من الزيت لتقاتل الناس عند بابه كلهم يزعم أنه يخرج الجني من الإنسي، وحتى أصبح كثير من الناس بمواقف رأيناها بأعيننا، وبلقاء من عمل بهذا العلم واشتغل بهذه المهمة إذا أراد أن يهرب من أمر وقع فيه زعم أنه للجن، تجد المرأة لا تريد زوجها فتفزعه في الليل وتتقلب وتقول: جني أزرق أو جني أحمر، فالمسكين يصدق أن هناك جني فيذهب بها إلى أقوام قد لا يجدون فقه هذه المسألة فيقول: فيها جني، فيمكث الجني أعواماً وشهوراً وسنين وهو يغدوا بها من مكان إلى مكان، والمسألة تتلخص في أمر بسيط وهو أنها لا تستطيع أن تقاوم أهلها ولا تستطيع أن تقول له لا، فتلجأ إلى هذه المشكلة أو تلجأ إلى هذه الطريقة، حتى لجأ بعض الناس إلى مسألة أخرى، وهي إلى التكسب ا