للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيف يموت العبد]

إن كيفية قبض الأرواح تختلف من زيد إلى عمرو، ومن مؤمن إلى كافر، ومن بار إلى فاجر، ولكن من صور الموت التي يستصعبها الإنسان ما يسمى بالقتل صبراً، ومعنى القتل صبراً: أن يمشى بالرجل يساق إلى القتل، فيعلم أنه قد أتي به ليقتل، فهذا القتل تسميه العرب القتل صبراً، وكثير من الناس مات على هذه الطريقة، سواء من الأخيار أو من الفجار، فمن مشاهير الأخيار الذين ماتوا على هذه الصورة خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه، ذلك الصحابي الذي ذهب به الملأ من قريش إلى التنعيم، فقدموه واختبروه قبل أن يقتلوه، وسألوه إن كان يرضى أن يشاك نبينا صلى الله عليه وسلم أو يؤذى بأذى وهو آمن في بيته، فأخبرهم بأنه لا يرضى أن يكون آمناً في بيته على أن يصاب صلى الله عليه وسلم بشوكة.

ثم قدموه إلى الموت، فصلى ركعتين، وأخبر أنه لولا أن يظن به أنه أطال مظنة الخوف لأطال في صلاته تلك، ثم دعا عليهم: اللهم أحصهم عدداً، وأفنهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.

ثم قتلوه وصلبوه، فذلك هو الموت صبراً.

وممن مات به من الفجار النضر بن الحارث، كان من أعظم أعداء نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة، وشهد بدراً مع قريش، ووقع في أسر المقداد بن عمرو رضي الله تعالى عنه، وكان يسمى في الجاهلية المقداد بن الأسود، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من المدينة أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وقتل عليه الصلاة والسلام النضر بن الحارث صبراً، حيث أمر علياً رضي الله تعالى عنه بأن يجره إلى الموت فيقتله، فذكروا أن أخت النضر لما بلغها الكيفية التي قتل بها أخوها ذكرت في ذلك شعراً، منه: أخذت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تقطع وذكرت فيه أبياتاً تستعطف بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقل ابن هشام في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن شعرها هذا بلغني قبل أن أقتله لما قتلته) والله تعالى أعلم بصحة الرواية، فهذا ما يسمى بالقتل صبراً.

وبعض الناس يُظهر في هذه المواقف شدة وبأساً تكاد تتفطر لها الأكباد وتذهل لها العقول، فمن ذلك ما نقلوا أن رجلاً قتل رجلاً في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، فلما قدم به على معاوية قال له أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: يا فلان! قال: يا فلان! إن هؤلاء يزعمون أنك قتلت أباهم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتريد الجواب شعراً أم نثراً؟ فقال: بل شعراً، فأجابه بأبيات يعترف فيها بخطئه، فأمر معاوية بأن يقتل، فقدم به إلى المدينة؛ لأنه كان من سكانها، وقد جرت العادة آنذاك بأن أولياء المقتول يتولون قتل واترهم، أي: من قتل مقتولهم، فلما قدم به في ساحات المدينة واجتمع الناس، وحضر الأمير بحجابه وأبوابه وجنده وحاشيته، قال ذلك الرجل الذي يقاد إلى الموت لأحد أولياء المقتول: قال: يا فلان! إنني قتلت أباك ولم أرحمه، فاقتلني بشدة وقوة، فلما وضعوه في القيد تعجب منهم، قال: وأي حاجة للقيد، فأمر بأن يفك قيده، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: أذا العرش! إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صريرُ لأعلم أن الأمر أمرك إن تَدِن فرب وإن ترحم فأنت غفورُ ثم ضرب بالسيف، فقال من شهده كما نقل عنهم: والله ما رفست قدماه، ولا تحرك منه شعرة واحدة.

وهذا أمر يؤتيه الله جل وعلا بعض عباده، ويقبضه الله تبارك وتعالى عن آخرين، وإنما أردت أن أستدل به على ما يسمى بالقتل صبراً.