للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علم الإنسان بضعف العباد]

ومن الطرائق التي يصل بها المؤمن إلى تعظيم الله: أن يعلم الضعف في العباد.

فإن رؤياك للنقص في الخلق يسوقك لأن ترى الكمال في الخالق.

شج رأس نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وسال الدم على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وهو يعتريه ما يعتري وجوه المخلوقين فيقع في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحي القيوم.

ويرى الإنسان النقص حتى في الملائكة يقول الله جل وعلا عنهم بلسان مقالهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:١٦٤]، ويقول جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:٦٤] فنحن وإن كنا ملائكة كراماً، وخلقاً عظاماً، لنا ما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقاماً لا نتعداه وأموراً لا نتجاوزها، ولا نملك لأنفسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزلنا من السماء إلى الأرض، وهي بالنسبة لهم أمر هين كطرائقنا المعتادة التي نسير عليها إلا أنه لا يمكن أن يقع إلا بأمر من الله.

بل إن الذين يعصون ربهم في الأرض لا يعصونه إلا بإذنه القدري جل جلاله، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:٣٥]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:١١٨]، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:١١١].

فلا الذين أطاعوه جل وعلا أطاعوه بفضلهم ولا الذين عصوه جل وعلا عصوه بقدرتهم، ولا الذين أطاعوه زادوا في ملكه ولا الذين عصوه أنقصوا شيئاً من ملكه.

فهو جل وعلا لا تنفعه طاعة طائع ولا تضره معصية عاص، له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

والمقصود: أن رؤية النقص في الخلق يدل العبد على كمال خالقه تبارك وتعالى.

يفتن المسلمون بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ينصر بالرعب مسيرة شهر، يصيب الوجل والخوف أعداءه ومع ذلك يأتيه الموت وهو على فراشه صلوات الله وسلامه عليه ويرى السواك فلا يقدر أن يقول: أعطوني السواك، يرينا الله الضعف في نبيه حتى نرى كمال القوة في ربنا جل جلاله، فإذا كان هذا حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فما بالك بحال من دونه حتى تعلم عظيم قدرة ربك جل وعلا.

ولهذا قال الله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٧٤]، وقال ناعياً أهل الكتاب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:٩١].

والمقصود هذه الحقيقة الرابعة في أن الإنسان إذا رأى النقص في غيره من المخلوقين أو في نفسه رأى الكمال والعزة والجلال في ربه تبارك وتعالى.