للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات مع بدايات سورة الزخرف]

ننتقل إلى آيات أخرى نفسرها لسبب واحد، وهو أن فتنة الدجال محدودة الكلم، والناس ينتفعون بها مقدار واحد، لكن إذا كانت مثل هذه اللقاءات واجتمع الناس يخرج الإنسان ويتوسع في الحديث، رغبة في نفع نفسه ونفع غيره من المؤمنين، فنقف الآن على بعض آيات في كلام الله جل وعلا نفسرها نفعاً لمن حضر.

قال الرب تبارك وتعالى في سورة الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:١ - ٣] في هذه الآية فائدة علمية، وقد تمسك بها المعتزلة في أن القرآن مخلوق، إذ قالوا: إن (جعل) بمعنى: خلق، واحتجوا بأن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، والمعنى خلق الظلمات والنور، وهذا القول الذي ذهبوا به باطل من وجوه: وهو أنه قبل أن شرع في بيانها نأخذ نظير لها، ثم نطبق هذا النظير على هذه الآيات التي بيننا.

ثمة أفعال لا يتضح معناها إلا من سياقها، فمثلاً قال الله جل وعلا: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:٩٩]، فأخبر جل وعلا بمثل هذا، والمقصود به النظر بالعين الباصرة، لأن الفعل (نظر) هنا تعدى بحرف الجر (إلى)، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣] فالفعل نظر إذا تعدى بحرف الجر إلى يكون المعنى: النظر بالعين الباصرة، وإذا تعدى بحرف الجر (في) فإن المقصود به: التدبر والتأمل، يقول أحدكم: نظرت في أمري، يعني: تفكرت فيه، ولو كان لا يرى بالعين في المعنويات.

وقال الله جل وعلا عن أهل النفاق إنهم يقولون يوم القيامة: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] فلم يتعدى الفعل هنا لا بـ (إلى) ولا بـ (في)، فيصبح معناه أي: أمهلونا، من هنا نفهم أن أمهات الأفعال لا تعرف إلا في سياقها وما تعدت به، وكذلك الفعل (جعل) جاء في القرآن على أضرب عدة، فقد جاء بمعنى: سمى، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩] أي: سموا الملائكة إناثاً، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:٢٧].

ويأتي بمعنى صير، ومنه قول الله جل وعلا حكاية عن القرشيين في سورة (ص): {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] فجاء الربط هنا بالفعل جعل، ومعلوم أن القرشيين لا يقصدون بقولهم عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] أنه خلقها، وإنما قصدوا أنه صيرها إلهاً واحداً.

وجاء جعل في القرآن بمعنى: خلق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩].

يتحرر من هذا وفق قواعد العرب أن الفعل جعل إذا تعدى إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير، وإذا تعدى إلى مفعول واحد يكون بمعنى الخلق، فقول الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣] تعدى إلى مفعولين، فلا يكون بمعنى الخلق، فلا يصبح هناك حجة لمن زعم أن القرآن مخلوق، هذا إذا استصحبنا كذلك الأصل العظيم، وهو أن الله جل وعلا أخبر في قرآنه في آيات عديدة أن هذا القرآن منزل من عند الله تبارك وتعالى.

الفائدة الثانية: قال الله جل وعلا في الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} [الإسراء:١٠٥] ثم قال: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:١٠٥]، والفرق بين المعنيين: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:١٠٥] بالحق أنزلناه أي: أنزلنا هذا القرآن متضمناً للحق، فالقرآن صادق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، قال الله جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥].

أما قول ربنا جل وعلا: (وبالحق نزل) فهذا مثل من تبعثه برسالة تريد منها أن يوصلها إلى غيره، فحتى تصل رسالتك إلى غيره على النحو الأتم والوجه الأكمل لابد من توفر أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرسول أمين، لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، والأمر الثاني: أن يكون قوياً، لا يضعف أمام أحد فيغير في الرسالة، والقرآن نزل به من عند الله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: (وبالحق نزل) تدل عليها آي التكوير، قال الله جل وعلا في الثناء على جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ} [التكوير:١٩ - ٢٠] أي: لا يقدر أحد أن يجبر جبريل على أن يغير القرآن الذي معه وهو ينزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لجبريل أن يغيره من تلقاء نفسه؛ لأن الله قال بعدها: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:٢١]، فجبريل قوي وأمين في آن واحد، فأمانته تنفي الخيانة، فلا يمكن لجبريل لما اتصف به من الأمانة بشهادة رب العالمين أن يغير في القرآن، ولا يمكن لأحد أن يستغل ضعفاً في جبريل فيغير القرآن؛ لأن الله جل وعلا بشهادته لجبريل وصفه بأنه قوي، قال الله جل وعلا: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:٦] أي: ذو قوة، وقال جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:١٩ - ٢٠] فوصفه كذلك هنا بالقوة، وهنا يتحرر معنى قول الله جل وعلا: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:١٠٥].