للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)]

الملقي: الوقفة الخامسة: مع قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢].

الشيخ: الآن تتعلم من الآية -أعاننا الله وإياك- كيفية الرد على المخالف، فالقرية إذا وردت في القرآن فهي بمعنى: المدينة، والله يقول هنا: (وقالوا) أي: القرشيون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، فهم يقولون: إن محمداً نشأ يتيماً فالأولى ألا ينزل القرآن على يتيم، وكانوا يزعمون أنه كان ينبغي أن ينزل القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقصدوا بالقريتين مكة والطائف.

وقيل: إنهم قصدوا بالرجلين: عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة، وأياً كان المقصود من الرجال فهم يقولون: إن محمداً لا يستحق أن يعطى النبوة والرسالة ويختم به الأنبياء، فالله جل وعلا رد عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢]، فهذا استفهام إنكاري، ثم قال بعدها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢]، فالآن هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون بأن الذي يوزع الأرزاق ويقسمها هو الله، فالقرشيون مؤمنون: أن الذي قسم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا حراً وهذا عبداً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً، وهذا سيداً وهذا تابعاً، مؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله، ويؤمنون أن الأرزاق من الله، فالله يقول لهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢].

فإذا كان الله جل وعلا في مسائل الرزق العادي لم يكلها إليكم، فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة! فإعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق، وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة، فالله يقول لهم: أنتم مقرون أن الأرزاق إنما قسمها بينكم الله، فكيف يعقل أن تطالبوا بشيء لا يمكن أن تنالوه، فإذا كان الله لم يكل إلى أحد من خلقه أن يقسم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسكنى، فكيف يكل الله إلى غيره أن يقسم النبوة، والنبوة أعظم من أرزاق الناس.

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:٣٢] كما هو ظاهر اختلاف الناس، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:٣٢] (سُخرياً) هنا بمعنى: الخدمة، مبرأة من الاستهزاء، فالمقصود: أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعض خدماً؛ حتى تقوم الحياة، فكما تحسنه أنت لا يحسنه غيرك، وما يحسنه غيرك لا تحسنه أنت، لكن تأمل قول الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢] نبه بالأدنى على الأعلى، ((لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) ثم قال الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢].

واختلف العلماء في معنى الرحمة هنا، والذي أراه -والعلم عند الله- أن المقصود بها: الجنة؛ لأنه لا يظهر الفرق بين رحمة الله وبين ما يجمعون إلا إذا كان شيئاً خالداً وشيئاً غير خالد، والجنة نعيمها خالد بخلاف متاع الدنيا فإنه مهما عظم فهو غير خالد، فيكون معنى قول الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢] يعود على الجنة في أظهر أقوال العلماء.