للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الأمم يوم القيامة]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله! فإن تدبر القرآن من أعظم البراهين وأجل القرائن عن البعد عن قسوة القلوب، قال الله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، ومن أراد الله به سعادة الحياتين والفوز في الدارين منّ عليه جل وعلا بأن يتدبر كتابه على الوجه الذي أراد جل وعلا، وعلى الوجه الذي بين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.

وفي هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع المبارك نقف وإياكم مع بعض آيات الكتاب المبين، وهي وقفات علمية ووعظية ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، مستصحبين أمراً عظيماً وهو أن التوفيق بيد الله جل وعلا وحده، فما كان لمتحدث أن يتحدث، ولا لمحاضر أن يحاضر، ولا لمتلق أن يعي ويسمع إلا إذا أذن الله، فمن أسلم قلبه لله، وعلم أن الفضل كله بيد الله كان قريباً من رحمة ربه؛ لحسن ظنه بمولاه وجل اعتماده ويقين توكله على خالقه سبحانه وتعالى.

ولا نشترط في الآيات التي نتدبرها ونتأملها الليلة أن تكون مرتبة وفق ترتيب المصحف، فقد يكون لترتيبها بعض الحكم التي قد تظهر أو قد تخفى.

قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين في سورة الجاثية: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨ - ٢٩]، الجثو في اللغة: هو البقاء على الركب، وإن لامست أطراف الأصابع الأربع فلا حرج، وهي من أعظم دلالات الخضوع.

وفي هذه الآية الكريمة يخبر جل وعلا عن حال الأمم يوم القيامة، فيقول مخاطباً نبيه: (وترى) أي بعين البصيرة؛ لأن ترى تأتي قلبية فتتعدى لمفعولين، وتأتي بصرية فتتعدى لمفعول واحد، قال الله جل وعلا هنا: (وترى) أي: يا نبينا! أيها المخاطب بالقرآن سائر الناس، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي: على ركبها.

ثم قال الله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) قال بعض العلماء كما نقله الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه: إن جهنم يومئذٍ تزفر زفرة فتجثو الأمم على ركبها، حتى إن خليل الله إبراهيم عليه السلام على رفيع درجته وعلو منزلته يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي.

بل ورد أن عيسى ابن مريم عليه السلام يومئذٍ يقول: نفسي نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني، فإذا كان هذا حال أنبياء الله فما عسى أن يكون حال من دونهم، وكلنا دونهم، نسأل الله لنا ولكم العافية والستر.

قال الله جل وعلا يخاطب نبيه: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ) والكلام ابتداء ولذلك رفعت، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) اختلف العلماء في معنى كتابها هنا: هل هو الكتاب الشرعي الذي أنزل على رسل تلك الأمم كالتوراة على موسى والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، أو هو الكتاب الذي دوَّن فيه الملكان ما عمله بنو آدم؟ بكل قال العلماء، ويرجح الأول الإفراد في الآية، فقول الله جل وعلا: (هَذَا كِتَابُنَا)، والإضافة هنا إلى رب العزة، لأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه.

وإذا قلنا: هو كل أحد بعينه فيؤيده ما بعده، فإن الله قال بعدها: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩]، فكلا القولين متوجه، ولو رجحنا أحدهما فإنه لا يلغي الآخر، بمعنى أن كلا الأمرين ثابت بآيات أخر، وإنما الخلاف بين العلماء لأيهما تشهد هذه الآية، مع الاتفاق على أن الأمم تسأل عن كتبها، قال الله جل وعلا عن كتابه العظيم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:٤٤]، مع الاتفاق أن كل أحد يعرض عليه كتابه، ويسأل عن عمله، كما قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الكهف:٤٧ - ٤٩] إلخ الآيات هذه وغيرها الدالة على أن الإنسان تعرض عليه صحائف عمله.

قال الله جل وعلا: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨ - ٢٩]، وبراهين اللغة تقول: إن الاستنساخ معناه النقل عن الأصل، ولهذا اختلف العلماء رحمة الله عليهم في معنى هذه الآية: فمنهم من قال: إن الأصل هو اللوح المحفوظ، فيصبح معنى الآية أن الملائكة الذين في السماء يكتبون عن اللوح المحفوظ أعمال بني آدم، والملائكة الموكلون ببني آدم يكتبون أعمالهم ثم يطابقون هذا على هذا، وهذا وإن كانت اللغة تعضده إلا أنني -والعلم عند الله- أراه بعيداً، فنبقي على أصل اللغة وهو أن الاستنساخ أخذ من الأصل، فيصبح المعنى أن الاستنساخ هنا بمعنى أن الملائكة تكتب عن الواقع الحق البين وهو عمل بني آدم، فالملك الذي على اليمين أو الملك الذي على الشمال كلاهما يكتبون واقعاً مشهوداً وحاضراً مشاهداً يدوناه، فهذا يمكن اعتبار أنه أخذ عن الأصل.

وهذه الآيات برمتها تبين لكل أحد يتدبر القرآن أنه مسئول كل المسئولية عن عمله، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:٦ - ١٢]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق عثمان: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فالملائكة رأت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه حياء جماً، فهو في السر كما هو في العلانية، يستحي من الله في الملأ ويستحي من الله في الخلاء، ويعلم رضي الله عنه وأرضاه أن معه ملكين يدونان ما يكتب، فنستغفر الله مما يكتب الملكان من الخطايا.

لكن الإنسان إذا رزق قلباً موقناً بلقاء الله، مستحياً من ربه جل وعلا، يعظم الله ويعظم أمره ونهيه استحيى من -باب حيائه من الله- من الملائكة الذين معه، فكان حاله في السراء كحاله في العلانية، وتلك منزلة عظيمة جليلة.

ومن أقسى ما قاله المفسرون، أن قال بعضهم في قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:٩٠] قالوا في العدل: أن تستوي السرية والعلانية، وقال بعضهم: والإحسان أن تكون سرية الإنسان أفضل من علانيته، وهذه كما قلنا منزلة عالية قد لا يدركها إلا ثلة قليلة من الخلق، سلك الله بي وبكم سبيلهم.