للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمور التي تعين الإنسان حتى يبني نفسه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم]

والإنسان حتى يبني نفسه على هدي محمد صلى الله عليه وسلم لابد له أن يستصحب أموراً عامة من أهمها: أن يكون حسن الظن بربه جل وعلا، وهذا فصلنا فيه في أكثر من موقف.

والأمر الثاني: أن يكون الإنسان ذا حكمة وروية فيما يقول ويفعل، فلا يقدم يمناه حتى يجد موطناً ليسراه، ويعلم أن الكلمة قد تصلح اليوم ولا تصلح غداً، وأن الإنسان العاقل يقتبس من سنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كيف مضى صلى الله عليه وسلم في أيامه النضرة وسيرته العطرة، في سبيل طرائق ذات حكمة تدل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حلم وعلم قبل ذلك، وأدب جم مع ربه ومع الناس صلوات الله وسلامه عليه.

كما أن الإنسان وهو يبني نفسه لابد أن يكون هناك باعث في النفس، ومن هنا يعلم المرء أن المسئولية مسئولية فردية يوم القيامة، وأنه: ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك ويذكرون أن الإمام ابن حزم رحمة الله تعالى عليه دخل المسجد قبل أن يطلب العلم، دخل المسجد ليصلي على جنازة فجلس حتى تحضر الجنازة، فقال له أحد الحاضرين مؤنباً: ما لك تجلس! قم فصل ركعتين تحية المسجد، فقام فصلى، ثم إنه علم أن هناك جنازة في صلاة المغرب فتوجه إلى المسجد في وقت النهي، فدخل وصلى، فرآه أحد الناس فنهاه عن الصلاة في هذا الوقت، فلما وجد التأنيب من رجلين هذا يأمره وهذا ينهاه وجد أنه مضطر لطلب العلم، كي يرفع الجهل عن نفسه، فطلب العلم حتى عد إماماً عظيماً من أئمة الإسلام، قال العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: كتابان من حواهما وقرأهما وكان على منزلة عظيمة في الذكاء حق له أن يفتي: المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه في الأعلام وهو يزيد عليهما قال: وأنا أقول: فإذا جمع الإنسان معهما التمهيد لـ ابن عبد البر والسنن الكبرى للبيهقي رحمة الله على الجميع، وكان الرجل ذكياً، وأدمن -هذا لفظه- المطالعة في هذه الكتب الأربعة أضحى عالماً فذاً من علماء المسلمين.

موضوع الشاهد: أن الإنسان ينظر في الآمال التي يبتغيها، والمنازل التي يريد أن يصل إليها، فيحسن الظن بربه، فيصدق في توكله على خالقه ومولاه، ثم مع ذلك يأخذ بالأسباب، فهذا هو الهدي الأقوم والطريق الأمثل الذي بينه صلى الله عليه وسلم لأمته، ويندرج في قول الله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].

فإذا قدر للإنسان أن يبتلى بحساد يحاولون أن يمنعوه من الوصول إلى غايته، أو مثبطون لا يريدون له خيراً، أو ضعفاء شخصية يخافون الخوض في اللجج فهؤلاء يجب أن يتنهى الإنسان على أن يسمع لهم: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.

ومن أعظم ما تنافس فيه الناس وبلغوا فيه أعظم الغايات الوصول إلى أرفع الدرجات في العلم؛ لأن الله جل وعلا جعل العلماء شهوداً على أعظم مشهود، قال الله جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨].

في غمرة هذا وبحث الإنسان عن الشرف والمجد -كما يكون هناك فئة تثبطك أو تحسدك أو تهون عزيمتك- قد تأتي فئة تحاول أن تسلك بك طريقاً آخر، فتقول لك: إن طرائق المجد في أن تشهر السيف على المسلمين، أو أن تخرج على ولاة أمرك، أو أن تتبنى طرائق التكفير، أو أضراب ذلك من دلائل الباطل وبراهين الضلالة التي لا يشك مؤمن حصيف متدبر للقرآن فيها، ودين الله بين الغالي فيه والمجافي عنه، ومن أراد الوصول إلى غاية شرعية فلابد أن تكون المطية للوصول مطية شرعية، فأي غاية شرعية تكون صادقاً مع ربك في الوصول إليها لابد أن تكون المطية مطية شرعية وإلا فلا، فلا يمكن الوصول إلى غايات إلا بما أراد الله وأرد رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإن من أعظم دلائل الحق: أن يطبق الإنسان كلام ربه، وأن يستقي العلم الحق من القرآن لا من الأناشيد، وأن يؤخذ الدين من هدي محمد صلى الله عليه وسلم لا من طرائق غيره، وهذه منزلة تحتاج إلى إنسان أسلم قلبه حقاً لله، ولم يضرره الهوى، ولم تضلله الأماني، ولم يسمع لكل ناعق، فمن وطن نفسه على السمع والطاعة لما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ألبس ثوب الهداية، وهدي إلى صراط مستقيم، وكان يرى بنور الله، كما في الحديث القدسي عن أولياء الله جل وعلا: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره التي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).

فيرزق التوفيق أولياء الله، وهم المتشبثون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلت الفتن وظهرت هنا وهناك لجئوا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بما عليه جماعة المسلمين كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.

فقد أحاطت بالمؤمنين في المدينة الدوائر، وحاصرهم جيش مسلم بن عقبة المري، وأرادوا بهم خزياً وعاراً، فجمع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع القرآن وهو ينزل عليه، واغترف من هديه وأخذ من مشكاته، جمع بنيه وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج عن الإمام قيد شبر مات ميتة جاهلية)، فنقل إلى أبنائه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يطبق في أمور ويترك في أمور، ومن أن نجعله هوىً نقبله حيناً ونتركه أحياناً، لكن المؤمن الحق الذي يريد ما عند الله يعلم أنه لا مطية توصل إلى دخول الجنة إلا ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقال وهو الصادق المصدوق المبلغ عن ربه: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، إلى غير ذلك من النصوص التي لا يمكن إزالتها عن مواطنها، ولا أن تخرج عن موضعها، ولا أن يقبل بشيء يصادمها، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، كما هو مقرر في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من قبل.

بقي أيها المؤمنون! أن نأخذ آية نختم بها هذا اللقاء المبارك، نعظ بها أنفسنا قبل غيرنا، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:١٣ - ١٩].

قيل: إن أبا حازم سأله أحد خلفاء بني أمية عن حاله، فقال: يا أمير المؤمنين! اعرض نفسك على القرآن، قال: وأين أجد هذا؟ قال: في قول الله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤].

ويقول عمر: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب ولا عمل.