للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر لقاء موسى ربه في السورة]

قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:١٤٣]، موسى هو كليم الله وصفيه، وهو ابن عمران، بعثه الله جل وعلا إلى فرعون وإلى الملأ من قومه من بني إسرائيل، وهذا الإخبار الذي قاله الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} كان في صحراء التيه، وموسى عليه الصلاة والسلام والملأ الذين معه خرجوا إلى صحراء التيه بعد خروجهم من أرض مصر، قال الله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:١٣٨] وموسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن في مصر؛ لأن بني إسرائيل استوطنوا مصر بعد أن جاء يعقوب بدعوة من ابنه يوسف، ثم تناسلوا، فأمر الله موسى بقوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:٢٣]، فسرى بعباد الله المؤمنين ليلاً، وجاوز البحر، فأتبعه فرعون بجنوده بغياً وعدواً فأغرقه الله، فلما مكثوا في أرض التيه، أمرهم نبيهم: أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] وامتنعوا عن الجهاد، قال الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:٢٥ - ٢٦].

في تلك الحقبة الزمنية قبل أن يموت موسى وبعد أن نجا من البحر، أعطاه الله جل وعلا موعداً قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:١٤٢] فصامها عليه الصلاة والسلام كما يقول أهل التفسير، وكانت شهر ذي القعدة، ثم إنه استحيا أن يلقى الله وعليه خلوف فم الصائم فطعم، فلما طعم عاقبه ربه وليس عقاباً الذنب، لكن لخلاف الأولى، فزادها الله عشراً، فصام عشراً، فكان الميقات مكانياً وزمانياً، أما الميقات الزماني فلم يذكره القرآن، لكن أهل التفسير يقولون: إن موسى كلم ربه في اليوم العاشر من ذي الحجة، وأما الميقات المكاني فإن الله ذكره في القرآن: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} [طه:٨٠]، فإن الله جل وعلا كلم موسى عند جانب الطور الأيمن التكليم الثاني؛ التكليم الأول كان وقت البعثة، والتكليم الثاني كان بعد النجاة من البحر، قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:١٤٢ - ١٤٣] لميقات زماني ومكاني ضربه الله له.

قال الله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣]، فالله جل وعلا كلم موسى تكليماً يليق بجلاله وعظمته وقد سمعه موسى ووعاه.

أعطي موسى منزلة أحب أن يرتقي إلى أعلى منها، قال الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، ثم من باب التعزية والتسلية له قال له ربه: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف:١٤٣] إذا بالجبل تسيح هضباته وتدك صخراته، فلما رأى موسى ما حل بالجبل قال كما حكى الله عنه: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، وصعق بمعنى: أغمي عليه: {فَلَمَّا أَفَاقَ} [الأعراف:١٤٣] أي: من صعقته، {قَالَ سُبْحَانَكَ} [الأعراف:١٤٣] تنزيهاً لله عما لا يليق به: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] أي: وأنا أول من يؤمن أنك لن ترى في الدنيا، أو ((وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) من بني إسرائيل، تحمل على عدة محامل.

رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، وفي الآخرة جائزة وواقعة عقلاً وشرعاً، ومعنى هذا: أن الله قادر في الدنيا على أن يعطينا قدرة نراه فيها، فهي من حيث العقل يمكن أن نقول: إن الله قادر على أن يعطينا قدرة أن نراه فيها هذا معنى الجواز العقلي، ممتنعة شرعاً؛ لأن الله قال: ((لَنْ تَرَانِي))، فدل الشرع على أنها لن تقع، وهذا الأمة كلها متفقة عليه، وبقيت الرؤية في الآخرة وقد ذكر القرآن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، فهي جائزة عقلاً؛ لأنها إذا كانت في الدنيا جائزة عقلاً فمن باب أولى أن تكون في الآخرة جائزة عقلاً، لكنها في الآخرة زيادة واقعة قدراً وشرعاً؛ لأن الله جل وعلا أخبر أن عباده المؤمنين سيرون ربهم تبارك وتعالى.

{قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] فذكر الله منته على هذا الكريم.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف:١٤٤] أي: اجتبيتك واخترتك، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:١٤٤] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام ليس أفضل الخلق كلهم، وإنما المراد بكلمة الناس هنا: أهل زمانه.

{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:١٤٤] والشكر من أعظم مناقب أولياء الله الصالحين.