للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة إلى قوله: إلا قيلاً سلاماً سلاماً)

قال الله جل وعلا: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:٧] ثم فصَّل، فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:٨ - ١١]، فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يَرغب فيهم الراغب، ثم قال: ? {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:٩]، حتى يَرهب الناس أن يكونوا مثلهم، ثم قال جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠]، حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى درجة السابقين.

قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠ - ١١]، وتأمل -أيها المبارك- لطف الله جل وعلا بعباده، وفضله وإحسانه جل ذكره على خلقه، قال تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠ - ١١]، ولم يقل: المتقربون، حتى يفهم أن ما هم فيه فضل من الله تبارك وتعالى، وليس شيئاً حَصَلوا عليه بأنفسهم، وإن كان عملهم الصالح وإيمانهم إنما هو في أول الأمر وآخره فضل من الرب تبارك وتعالى.

قال ربنا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:١٠ - ١٦]، ثم ذكر بعض نعيمهم، ونعيمهم جاء مفرقاً في آيات أخر، لكن مما يعنينا هنا أن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِيْن} [الواقعة:١٠ - ١٨]، فجمع جل وعلا الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؛ لأن العرب كان في سننها وأعرافها: أنها إذا شربت الخمر تشربه على ثلاثة أحوال: إما أن تضعه في أكواب، وهي: ما لا عروة له ولا خرطوم، فجمعه الله جل وعلا؛ لأنهم كانوا يضعون فيها الخمرة.

ثم قال جل وعلا: {وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:١٨] وهو: ما له عروة وخرطوم، فهذا يسمى: إبريقاً ويجمع على أباريق، وقد كانوا يضعون فيه الخمر.

ثم قال جل وعلا: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:١٨] فأفرد الكأس؛ لأن العرب كانت تشرب في كأس واحد يتناولها الأول والآخر بعده، هكذا في مجلسهم ومجلس شرابهم، لكن شتان ما بين مجالس أهل الدنيا ومجالس أهل الآخرة، فخمر الدنيا ينغصها أمران: الأول: أنها تنفد وتنتهي.

والأمر الثاني -وهو أجل- مما ينغصها: أنها تذهب العقل، فإذا ذهب العقل حدث من الإنسان الافتراء والتطاول على ربه والتضييع لدينه؛ ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: (أم الخبائث)، لكن خمر الآخرة يقول الله جل وعلا فيه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩]، أي: أنها لا تنفد، وهذا معنى قوله: {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩]، ولا يسكرون منها، وهذا معنى قوله جل شأنه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩].

ثم قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:٢٠]، وأردف قائلاً: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢١]، وهنا قدّم الفاكهة على اللحم، ومعروف أن سنن الناس في طعامها: أنهم يقدمون اللحم على الفاكهة، لكن الفرق بين الحالين أن أهل الدنيا إنما يأكلون في الأصل لسدِّ الجوع، أما يوم القيامة في جنات النعيم؛ فإن أهل الجنة لا يأكلون لسد الجوع بل للتلذذ؛ لأن الجنة لا جوع فيها، فلا يأكلون لسد الجوع، وإنما يأكلون للتفكه والتلذذ، فلما كان أكلهم الأصل فيه أنه للتلذذ والتفكه جعل الله جل وعلا الفاكهة مقدمة على عين الطعام، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢٠ - ٢١]، وهنا خصَّ ربنا لحم الطير دون غيره؛ لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام، ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد، فإنما يحصل للملوك غالباً إذا نفروا أو ذهبوا للصيد، فأخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض، إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة، رزقني الله وإياكم الجنة.

قال الله جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٠ - ٢٤].

حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء جسداً، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة الواسعة العينين مع سواد فيها، {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٢ - ٢٤].

ثم قال جل وعلا -بما يسميه البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم- قال جل شأنه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:٢٥ - ٢٦].