للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله: تنزيل من رب العالمين)]

ثم قال ربنا تبارك وتعالى في خاتمة السورة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٥ - ٧٧]، لأهل العلم قولان في معنى: مواقع النجوم: قول يقول: إن مواقع النجوم: مطالعها ومساقطها، وأكثر من يتوجه للتفسير والإعجاز العلمي في عصرنا يذهب إلى هذا، لكن هذا القول لا يعضده قول الله جل وعلا بعدها: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦]؛ لعلمنا أن كل ما أقسم الله جل وعلا به أو عليه فهو عظيم، فلا بد أن يكون في قول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦] كبير فائدة لم توجد في ما أقسم الله به قبل من مخلوقاته.

فيكون قول الله جل وعلا على القول الثاني: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] ليس قسماً بالمخلوق؛ لأن القرآن غير مخلوق، وإنما قسم {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] أي: أن القرآن نزل منجماً، فلما نزل القرآن منجماً أقسم الله جل وعلا بمواقع نزوله، فيصبح القسم هنا عند طائفة من أهل العلم، ويروى هذا عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، ومال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أول تفسير سورة النجم إلى القول: بأن القرآن نزل منجماً، وهو المعني بقول الله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١]، وما قاله الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه قوي إلا أنا لا نحفظ في اللغة أن كلمة: هوى تأتي بمعنى: أنزل، وإنما تأتي بمعنى: سقط، لكن نعود إلى آية الواقعة، قال الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥]، حجة هؤلاء أن الله قال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦] وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٧] فيصبح المعنى: أن الله ذكر أن هذا القسم عظيم؛ لأن الله أقسم بالقرآن على القرآن، وهذا مرتقى صعب في الفهم، ليس في فهمه وإدراكه، لكن في أن يستنبطه الإنسان أولاً، وقد قال به القفال رحمة الله تعالى عليه أحد علماء الشافعية، وهو أن معنى الآية: أن الله أقسم بالقرآن على القرآن، فلما أقسم الله بالقرآن على القرآن كان حرياً أن يقال بينهما: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٦ - ٧٧].

أما اللطيفة في معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٧]: فإن أي كلام يكرر ويردد يذهب رونقه، ومن علم الأدب في مخاطبة الملوك يستحي أن يجعل كلامه عند الملوك مكرراً، ويبحث لهم في كل يوم عن فائدة جديدة، لكن كلام الله يتلى في المحاريب من أربعة عشر قرناً، ومع ذلك لم يذهب من رونقه شيء؛ لأنه كلام الله، ولو كان هذا الذي يتلى في المحاريب منذ أربعة عشر قرناً يسمعه الناس ويرددونه كلام بشر لملته الأنفس، ولسئمته الآذان، لكن لما كان هذا الكلام كلام رب العالمين جل جلاله؛ لم يكن لمؤمن أبداً أن يسئم ويمل من كلام ربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:٧٧] أي: باق على ما هو فيه من صون، ورونق، وعظمة، وبهاء، وهداية، وإجلال؛ لأنه كلام رب العالمين جل جلاله، قال الله: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:٨٠].

ثم أخبر الله جل وعلا في آية خبرية لا إنشائية فقال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩]، هذه الآية مسوقة في سياق الخبر لا في سياق الإنشاء، يعني: لا يأتي أحد ويقول: لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن الله يقول: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩]، لكن يجوز لنا أن نقول -وهذا قول جمهور العلماء- لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث عمرو بن حزم: (وألا يمس القرآن إلا طاهر)، فالاستدلال يكون بالحديث لا بالآية، فإن (لا) في قول الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩] نافية وليست ناهية، ولا الناهية هي التي يراد بها الإنشاء والتكليف والطلب، أما لا النافية فهي تسوق خبراً؛ لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنما يفهم من الإشارة لا من التصريح؛ أنه ما دام أهل السماء لا يمس القرآن منهم إلا طاهر وكلهم مطهرون، فينبغي على أهل الأرض ألا يمسوا القرآن إلا وهم طاهرون، وهذا قول جمهور العلماء.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمس المصحف من لم يكن متوضئاً؛ لأنهم لا يرون صحة حديث عمرو بن حزم، لكن كما قلت: ذهب مالك وجمهور العلماء معه على أنه لا يجوز أن يمس القرآن أحد إلا أن يكون طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، قال الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩].