للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رضاعته صلى الله عليه وسلم]

سوف نحاول أن نقف وقفات مختصرة في هذا اللقاء المبارك، فنجعل من بعض الأحداث، أو الأحاديث في سيرته مطية للحديث عن هديه وما يمكن أن ننتفع به من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قدوة للعاملين، وحجة على المعاندين، ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الوقفة الأولى: مع رضاعته عليه الصلاة والسلام، فالأم في القرآن يطلق على معان عدة، فيطلق على الأم نسباً وتسمى والدة، ويطلق على الأم إذا أرضعت، ولا تسمى والدة؛ لأنها ليست أماً نسباً، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:٢٣].

وقال في صدر الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣] أي: نسباً، ونبينا صلى الله عليه وسلم زهري أماً، هاشمي أباً، فأبوه من بني هاشم، وأمه من بني زهرة، ولما ولدته أمه هي التي أرضعته، فأول ثدي التقمه عليه الصلاة والسلام كان ثدي أمه، ثم ثدي ثويبة مولاة أبي لهب، واختلف في إسلامها هل أسلمت أو لا؟ والعلم عند الله، وليس بين يدينا نص صريح صحيح إثباتاً أو نفياً.

وثويبة كانت جارية لـ أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها أبو لهب لما بشرته بمولد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كان ما كان بعد ذلك من كفر أبي لهب بعد البعثة.

فـ ثويبة ثاني المرضعات، وثالث المرضعات: حليمة السعدية في بادية بني سعد على عادة العرب آنذاك، وشرف بأن رضع معه صلى الله عليه وسلم رجال ونساء، فلم يرضع معه من أمه أحد، لكن رضع معه من ثويبة أبو سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهو أخوه من الرضاعة، ثم مات أبو سلمة عن زوجته فتزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا إرهاصاً لما سيكون بعد، ثم أرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها وأرضاها.

وكذلك أرضعت معه ثويبة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فـ حمزة عمه نسباً، وأخوه رضاعة، ويقدر الله لوشائج القربى أن تعظم ما بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ حمزة كما أنه رضع معه من ثويبة فقد رضع معه من حليمة، فـ حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، ورضع مع النبي عليه الصلاة والسلام من ثويبة ورضع معه من حليمة، فهو أخوه من الرضاعة من جهتين: من جهة ثويبة، ومن جهة حليمة السعدية.

وأرضعت معه حليمة أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الخمسة الذين يشبهونه عليه الصلاة والسلام، وقد مر معنا في دروس مضت أن هناك خمسة شديدي الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن، والفضل، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث، وجعفر بن أبي طالب، فهؤلاء الخمسة أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئته الخَلْقية، ويتفاوتون في شبههم بهيئته الخلقية بعضهم عن بعض تفاوتاً بيناً كما هو معلوم.

فهؤلاء هم إخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهذه الرضاعة عموماً تنوعها يري كل من يفقه عناية الله جل وعلا برسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد لمن يدرس السيرة أن يربط جزماً ما بين القرآن والسنة، فالله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين في نبيه موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩]، فإذا كان قيل في كليم الله موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩] فما عسى أن يقال في سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، فأنبياء الله جل وعلا أعدهم الله جل وعلا لأمر عظيم، وشأن جليل، وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام في عناية ربه منذ أن حملت به أمه، وإلى أن أودع القبر عليه الصلاة والسلام، بل إن الله بعد ذلك: (حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وهو عليه الصلاة والسلام خيرة الأنبياء من الخلق، وهو عليه الصلاة والسلام محل احتفاء ربه جل وعلا، فحتى عائشة يراها في رؤيا في كفه قبل أن يتزوجها، والمدينة هذه المباركة التي هاجر إليها يرى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، ثم يهاجر بعد ذلك بقدر الله وشرعه إلى هذه المدينة المباركة، فهو لم يختر الأرض التي يهاجر إليها، ولم يختر التربة التي مات فيها، ولم يختر البقعة التي دفن فيها، ولم يختر أزواجه، كان صلى الله عليه وسلم في كل قول يقوله، أو فعل يفعله، أو خطوة يخطوها، يكون ذلك بخيرة من الله وقدره، وهذا هو المعنى الحرفي في قول شوقي: الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسمِ إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعمِ أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه.

فيبين هذا منزلته عند ربه، فبالله ما سينال أعداؤه منه إلا الوبال والخسران، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١].

فهو عليه الصلاة والسلام كفاه الله جل وعلا شر كل أحد: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٩٥ - ٩٦]، فإذا كان القرشيون القريبون منه جسداً وداراً ومقاماً وموطناً عجزوا عن أن يصل أذاهم إليه، فكيف بمن يريد أن يؤذيه اليوم وقد وسد الترب صلوات الله وسلامه عليه: والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا صلوات الله وسلامه عليه.