للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعتزلة]

الطائفة الثالثة: المعتزلة، القائلون بأن القرآن كلام الله ولكنه مخلوق، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦]، هذا استدلالهم بالنقل، أما استدلالهم بالعقل فقالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم لزم من كلام الله أن يكون له مخرجاً، لأن كل متكلم لا بد له من مخرج، وهو أن يكون له فم ولسان، وهذا تشبيه بالمخلوق.

والرد عليهم من وجهين كما هي القاعدة في الرد على أهل البدع، أولاً بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة، ثم بإبطال الشبه والرد عليها.

أما الشبهة الأولى فهي استدلالهم بقول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦]، قالوا: فشيء: نكرة في سياق الإثبات، وهي صيغة من صيغ العموم، والقرآن شيء فيدخل تحت خالق كل شيء، فهو مخلوق.

والجواب عليهم هو أنه إذا كانت هذه اللفظة عامة، فقد أتت أدلة وقرائن أخرى خصصت هذا العموم، كقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] وأضاف الكلام إليه بإضافة الصفة إلى الموصوف، وقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤]، وقول الله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:٢٥٣]، فهذه الأدلة تخصص هذا العموم، إذاً الكلام صفة من صفات الله، وصفات الله ليست مخلوقة.

ويخصص العموم أيضاً بالعقل، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] كقول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥] والمساكن لم تدمر، فالعقل يخصص هذا العموم، وهو أن الريح تدمر كل شيء قابل للتدمير، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] أي: كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق بل هو صفة من صفات الله ومعنى من المعاني وليست عينه قائمة بذاتها.

أيضاً قولهم: إن المتكلم يلزم له مخرج أي: فم ولسان، فيجاب عليهم بأن القياس باطل بين الخالق والمخلوق، وليس هناك قياس شبه أو علة بين الخالق والمخلوق وإنما هو قياس أولى، أي أننا لو وصفنا خلقاً من خلق الله بالكمال، فمن باب أولى أن نصف به الله جل وعلا، وإن نزهنا مخلوقاً عن النقص فأولى أن ننزه الخالق جل وعلا منه، وبعض المخلوقات تكلمت وليس بلازم من تكلمها الحنجرة والفم واللسان، فقد تكلمت النار، قال الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] فتكلمت بلا فم ولا لسان.

وأيضاً: الجنة تكلمت، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: جعلتني للضعفاء من خلقك وقالت النار: جعلتني للمتكبرين من خلقك).

أيضاً: الطعام تكلم، فقد كان الصحابة من نقاء قلوبهم وقوة إيمانهم يسمعون تسبيح الطعام بين يدي رسول الله، فالطعام يسبح لله جل وعلا بلا مخرج.

أيضاً: السماء تكلمت، والأرض تكلمت قال الله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١] وقال تعالى عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:٤ - ٥]، فتكلمت السماء والأرض بلا مخرج.

بل الأعجب من ذلك الجلود والأيدي والأرجل وهي جزء من الإنسان تتكلم بلا مخرج، قال الله تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:٦٥] ختم الله على الأفواه فتكلمت الأيدي والأرجل، ولا نعرف كيفية التكلم، فمن باب أولى ألا نعرف كيف يتكلم الخالق جل وعلا.