للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلابية والأشعرية]

الطائفة الرابعة من طوائف المبتدعة الذين يخوضون في صفة الكلام: الكلابية: أتباع ابن كلاب، الذي يقول: إن القرآن كلام الله حقيقة، وهو صفة من صفات الله الذاتية، يعني: اللازمة لله كلزوم الحياة، ولزوم القدرة، ولزوم العزة، فهي صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا تتعلق بالمشيئة، والحروف والأصوات التي نسمعها ونطويها هذه مخلوقة، والرد عليهم أيضاً من الوجه الأول بما جاء في الكتاب والسنة من أن صفة الكلام صفة لله جل وعلا، ويقال لهم: إذا قلتم: إنها صفة ذاتية أي: لا تنفك عن الله؛ خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة، فقد أثبت الله أن هذه الصفة صفة متجددة تتعلق بالمشيئة، وأنه يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] فالكلام هنا بسبب مجيء موسى فهو بمشيئة الله، شاء الله أن يتكلم عند مجيء موسى.

أيضاً: قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:٢] وهذا نص من القرآن يثبت أن هذه الصفة تتعلق بالمشيئة، فهي صفة فعلية لا صفة ذاتية.

أما قولهم: إن الحروف والأصوات مخلوقة، فقد وافقوا بذلك قول المعتزلة وخالفوا الكتاب والسنة؛ فإن الله جل وعلا يتكلم بحرف وبصوت، ولم يخلق الحرف والصوت، قال الله تعالى: {ن} [القلم:١] نون: هذا حرف من كلامه تعالى، وقال: {طه} طه ١]، {كهيعص} [مريم:١]، {طسم} [الشعراء:١]، {الم} [البقرة:١] فتكلم الله بحروف، وكلام الله من صفاته، فالحروف ليست مخلوقة.

أيضاً: تكلم الله بصوت وبكيفية أعلمنا الله إياها، فتكلم بصوت عال وتكلم بصوت منخفض إن صح التعبير، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم:٥١ - ٥٢] والنداء: يكون للبعيد، ويكون بصوت مرتفع، وتكلم معه بصوت منخفض كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:٥٢] والمناجاة معناها: الصوت المنخفض، وكذلك يأتي الله بالعبد يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويذكره بما فعل، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك في الآخرة).

وهنا تكلم الله كيفما شاء بالكيفية التي شاءها، وهذا فيه رد قاطع على الكلابية، وعلى أفراخ الكلابية وهم الأشاعرة؛ لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ لـ ابن كلاب، فالأشاعرة أتوا بغرائب الأقوال، فلا هم معتزلة، ولا هم أهل سنة وجماعة، ولا هم كلابية، أتوا ببدع من القول، فقالوا: القرآن كلام الله لكنه صفة من صفات الله الذاتية لا تنفك عن الله، فاتفقوا مع الكلابية في ذلك، ثم قالوا: وهو معنى في نفس الله، والمعنى في نفس الله بمعنى العلم وليس الكلام، فالذي نقرؤه ليس بكلام الله بل عبارة عن كلام الله، إن قرأت بالعبرية كان توراةً، وإن قرأت بالسريانية كان إنجيلاً، وإن قرأت بالعربية كان قرآناً.

فقالوا: أولاً: إن صفة الكلام ذاتية أزلية لا تنفك عن الله.

ثانياً: هو معنى في نفس الله.

ثالثاً: القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، إن قرئ بالعربية فهو قرآن، وإن قرئ بالعبرانية فهو توراة، وإن قرئ بالسريانية فهو إنجيل.

والجواب عليهم يكون بما جاء في الكتاب والسنة بأن صفة الكلام صفة فعلية لله جل وعلا، ثم نأتي إلى أدلتهم وشبههم: الأولى: قولهم: هي صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا، يجاب عليه بأن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣]، وقال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:٥].

ولازم قولهم هذا أن الله لم يزل ولا يزال يقول: (يا موسى إني أنا ربك)، ولم يزل ولا يزال يقول: (هي خمسون في الأجر وخمس قد فرضتها عليك) لما قالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس صحيحاً، فإن الله لم يتكلم مع الرسول إلا في المعراج عندما أعرج به إلى السماء.

إذاً: صفة الكلام صفة فعلية لا ذاتية كما سبق بذلك الرد على الكلابية.

أما الرد على قولهم: إنها معنى في نفس الله، هو أن المعنى في النفس ليس بكلام، ولكنه علم، بل ولازم قولهم اتصاف الله بالنقص، وهو أن الله لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه، فكأنهم يقولون: إن جبريل علم ما في نفس الله ثم ذهب إلى محمد فعبر له عن الذي في نفس الله جل وعلا، وهذه صفة نقص، فالذي لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه من المخلوقات نقول عنه: إنه لا يستطيع أن يعرض ما في نفسه فمن باب أولى أن ننزه الله عن ذلك.

أما قولهم: إذا كان بالعبرية فهو توراة، وبالعربية فهو قرآن، وبالسريانية فهو إنجيل، فهو بدع من القول، ويلزم منه القول بوحدة الأديان، وأنه لا فرق بين أحكام التوراة وأحكام الإنجيل وأحكام القرآن، والله جل وعلا فرق بينهم، فقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:٤٤] إلى آخر الآيات ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [المائدة:٤٦]، ثم بعد ذلك قال القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:٤٨]، فهو مصدق للتوراة ومصدق للإنجيل، ومهيمن عليه أي: ناسخ لهذه الأحكام التي أتت في التوراة، وأتت في الإنجيل.

فبين الله المغايرة بين العبرية والسريانية وبين القرآن، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:٤٨].