للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علم الغيب النسبي]

بعض الناس يذهبون إلى الكهنة ويقولون: قد أخبرونا مستقبلاً بأشياء وقد وقعت وقد حدثت ورأيت كثيراً من الناس ذهبوا إلى الكهنة والعرافين فأخبروهم بأمور مستقبلة وحدثت فوقعت وهذا من الغيب، فكيف عرف الكهنة هذا الغيب والله جل وعلا ينفي علم الغيب عن أي أحد إلا هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يركب بعضهم فوق بعض -هكذا- فيسترق مسترق السمع فيأتيه الشهاب فإما يأتيه الشهاب قبل أن يصل بالكلمة وإما يصل بالكلمة ثم يأتيه الشهاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيقرقرها في أذن الكاهن فيكذب معها مائة كذبة)، والذي يدل على ذلك الحديث الصحيح في خبر ابن صياد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فكان يشك في ابن صياد هل هو الدجال أم لا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختبئ له بين الأشجار، وكان نائماً وهو يزمزم يقول: زم زم، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم أمه فقالت: يا صائد! هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء قال: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني كاذب وصادق، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: خُلط عليه الأمر، ثم قال: إني خبأت لك خبيئة)، والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله مختبراً، ولذلك قلنا: لا يسأل الجن أبداً مسترشداً، حتى وإن استدل بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجوز الاستعانة بالجني المسلم على قضاء حوائج المسلمين، فهذا الكلام غير صحيح، واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بفعل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه حين غاب عنهم عمر، فذهب إلى امرأة لها رئي -يعني جني- وقال: سلي رئيك أين عمر؟ فسألته، وقالت: هو في المكان الفلاني، فذهبوا فوجدوه.

وهذا الأثر يحتاج إلى إثبات السند، وهو واقعة عين، وعندنا الأدلة التي تثبت عدم جواز الاستعانة بهم بحال من الأحوال؛ لأن هذا غائب، ونحن اشترطنا شروطاً عظيمة جداً في الاستعانة وهي: حي حاضر قادر، والجن لا نراه، فهو غائب، فانتقض بذلك شرط من شروط الاستعانة، فالجن غائب عنا فلا يجوز الاستعانة به، لكنه قال: خبأت لك خبيئة ليرى كذب هذا الرجل وما الذي يحدث له، فقال: الدخ، حتى ما قال: الدخان، يعني: الجن سمعوا الدخ، قبل أن يقولوا: الدخان، والشهاب أتاه فقتله، فنزلت على أذنه يقرقرها في أذنه، فقال: الدخ وما أكمل الدخان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه كاذب: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، فالكهنة يعرفون الكلمة من المسترق فيكذبون عليها مائة كذبة، ولا يعلمون الغيب، والصحيح الراجح أن الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن نازع في هذه الصفة فقد كفر، فحكم الكهنة الذين يخبرون بالأمور المستقبلة حتى ولو تحققت أنهم كفار، فالفعل فعل كفري.

والغيب النسبي يحل لنا إشكالاً كبيراً جداً وهو إشكال المنديل، وهو أن أناساً عندنا في مصر يذهبوا إلى العراف فيضرب الورق، فيقول له: من الذي سرق البضاعة هذه؟ فيقول له: فلان بن فلان سرقها الساعة الفلانية، ويذهبون فيجدونه، فيضربوه ضرباً شديداً، فيعترف اعترافاً صحيحاً: نعم سرقتها في الوقت الفلاني وفي نفس المكان، وهذا ليس إخباراً بالغيب؛ لأن الغيب هنا غيب نسبي، فهو لبعض المخلوقين شهادة، فالقرين مع هذا السارق رآه كيف يسرق ومتى سرق فأخبر الكاهن هذا الذي يضرب الودع أو يكلم الجن، ومثله التنويم المغناطيسي، فهو يكلم قرين النائم، فقرين الكاهن يذهب إلى القرين الثاني فيسأله فيجيب ويقول له: سرقها في الوقت الفلاني، وهو مختبئ الآن في المكان الفلاني، فالإشكال حُلَّ، فالغيب النسبي هو ما غاب عني وهو شهادة بالنسبة للآخرين، فيغيب عن بعض الناس ويكون شهادة لبعض الناس، وهذا يعلمه البعض ويخفى عن البعض.