للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور واقعية تثبت قدرة الله على تغيير الإرادات]

من أشهر الصور التي تثبت قوة الله وقدرته جل وعلا على تغيير الإرادات والهمم، غزوة الأحزاب فقد كان عدد أهل الكفر من غطفان ستة آلاف مقاتل، ومن قريش أربعة آلاف مقاتل، ومن يهود بني قريظة وغيرهم، فكانوا أكثر من عشرة آلاف مقاتل، كل هؤلاء تكالبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن قوة الله وقدرته أظهرت أن النصر لا يكون بالسيف فقط، فهذه دالة على قدرة الله جل وعلا، وتجعل المرء إذا علم أن الله قادر على تغيير القلوب والهمم يدعو الله أن يصرف قلوب الذين يريدون تخذيل الدين إلى نصرة الدين، ويصرف قلوب الكافرين لهدم الدين إلى بناء الدين، والله ينصر دينه بالكافر وبالبر وبالفاجر، فالله جل وعلا جعل الخلل في الأحزاب الذين تحزبوا على دين الله، وأرادوا إهلاك واستئصال شأفة المسلمين، ولا يخفى علينا ما حدث في الصف المسلم من رعب وزلزلة، والقاعدة: أن المحن لابد أن يعقبها منح ولن يمكن المرء حتى يبتلى، فالصف المسلم بعد هذه الزلزلة التي وصفها الله جل وعلا بقوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١١] من تكالب الأحزاب الكافرة عليهم، وتكالب المنافقين وخذلانهم وإرجافهم بأهل المدينة، وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:١٣] وأرادوا الرجوع، وكذلك نقض يهود بني قريظة للعهد؛ فأصبح الصف المسلم في زلزلة عظيمة شديدة جداً، فعلم المؤمنون أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وعلموا أن النصر لا يمكن أن يكون بالحسابات المادية بحال من الأحوال، وهذا رد قوي جداً على أصحاب الكفر التائه الضائع الذين جعلهم الله من الهمج الرعاع؛ كما قال علي بن أبي طالب: الناس عالم رباني أو متعلم أو همج رعاع، والهمج الرعاع مثل الذين يقيسون قدرة الله بقدرة البشر، يقولون: كيف يقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام عشرة آلاف من أهل الكفر بسيوفهم ورماحهم وخيولهم وعتادهم؟ هل للنبي صلى الله عليه وسلم طاقة؟ وأصحابه لا يتجاوزون ثلاثة آلاف، فهل يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يواجههم؟ نقول: إن القوة الخفية التي هي قوة الله جل وعلا فوق ذلك كله، والذي يعلم قدرة المليك المقتدر يعلم أن قوة الله جل وعلا ليست في الموت فقط، أو أن يذيق الكافرين الموت، أو يقلب هذا على ذاك، لا، بل غيَّر الله سبحانه قلب رجل واحد وحوله من الكفر إلى الإسلام، ألا وهو نعيم بن مسعود الغطفاني وكان بغية غطفان هو تمر المدينة وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلخل الصفوف بذكاء منه، فقال: (أبايعكم على ثلث تمر المدينة على أن ترجعوا بجيوشكم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! إن كان هذا أمر من الله سمعنا وأطعنا، وإن كان هذا أمر تحبه أنت سمعنا وأطعنا، وإن كان من أجلنا فوالله لا نعطيهم تمرة واحدة إلا بالبيع والشراء أو قرى، فألغى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصلح، وقال: شأنكم، وإنما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، قالوا: لنا الله ورسوله) هذا هو الرد القوي، فمن علم بقدرة الله فليقل: لنا الله، ومن جهل قدرة الله فليقل مثل ما قال ذلك الرجل: (لئن قدر الله علي ليعذبني) فهذا الرجل قدح في قدرة المليك المقتدر.

(أتى نعيم بن مسعود الغطفاني النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأخفى إسلامه عن الجميع، فقال: يا رسول الله قد أسلمت، ما تأمرني؟ قال: إنما أنت رجل واحد، ولكن خذل عنا ما استطعت) أي: حاول أن تخذل عنا الذين تمالئوا علينا، وهكذا جعل الله نصر المؤمنين على يد رجل واحدٍ، فذهب الرجل بدهاء الحرب والخدعة إلى غطفان وقريش وأخبرهم أن اليهود ستغدر بكم، وسيأتون إليكم ويقولون: ائتونا برهائن يكونون عندنا؛ حتى لا تغدرون، وهم يفعلون ذلك ثم يغدرون، ثم ذهب إلى اليهود وقال: إن قريشاً وغطفان سيغدرون بكم، فعليكم أن تستوثقوا منهم، فخذوا منهم رهائن، فاختلف الفريقان، ونجحت الخطة، ورد الله جل وعلا قريشاً وغطفان بكيدهم، وأبقى اليهود بحسرتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ كل أموالهم غنيمة له ونساءهم سبياً له وللمؤمنين، ثم بعد ذلك قتل مقاتلتهم، انظروا إلى قدرة الله جل وعلا، قدرة الإرادات! قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) من يستطيع حرب الله جل وعلا؟! من يقوى على أن يقاتل الله جل وعلا؟! من قاتل أولياء الله فالحرب بينه وبين الله، فإنَّ الله يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].

قدرة الله المادية ظهرت جلية في أكثر من صورة من صور غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة بدر كان عدد المسلمين أربعة عشر رجلاً وثلاثمائة، وعدد المشركين ما يقارب ألفاً، وجعل الله النصر للمؤمنين: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:١٢].

وأيضاً في غزوة مؤتة كان الروم ثلاثمائة ألف بعددهم وعتادهم بينما عدد المسلمين ثلاثة آلاف، لا يمكن لعقل أن يتصور النصر للمؤمنين، لكن قدرة الله فوق كل قدرة، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٨٤]، فالله قادرٌ على أن يرسل الملائكة يقاتلون من أجل نصرة دينه، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١]، ومن استيقن هذه الآية علم أن الله غالب على أمره، وعلم أن الله ناصر دينه، وأن الله جل وعلا قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧].

ففي غزوة مؤتة أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يخبره ما حصل للمسلمين فيها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس باكياً على مقتل هؤلاء الصحابة، ثم قال: (ثم استلم الراية سيف من سيوف الله جل وعلا استله الله على أعدائه، فجعل النصرة على يديه) أي: جعل الله النصر على يد خالد بن الوليد.

لما فقه هرقل هذا الكلام قال لـ خالد: أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تنكل أبداً؟ وعمر بن الخطاب الذي يفقه أن النصر ليس من خالد ولا من أحد، وإنما النصر من عند الله، أول ما صار خليفة عزل خالداً، ولما سئل وعوتب على ذلك قال: حتى لا يظن الناس أن النصر من خالد، ولما تولى الراية أبو عبيدة بن الجراح جعل الله النصر على يديه؛ لأن النصر من عند الله جل وعلا، والقدرة قدرة الله، فمن استيقن بقدرة الله أتاه نصر الله، أما من لم يستيقن بقدرة الله جل وعلا فهو المخذول.