للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المرتبة الثانية: الكتابة]

المرتبة الثانية من مراتب القدر والتي لا بد للمؤمن بالقدر أن يؤمن بها: الكتابة، وهي تلي العلم، إذ لا يكتب أحد شيئاً إلا وقد علم بهذا الشيء الذي يكتبه، فالله علم كل شيء قبل أن يخلق أي شيء، وكتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء.

والكتابة لها خمسة مقادير: أولاً: كتابة أزلية، والكتابة الأزلية هي كتابة كل شيء إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:١٠٥]، والذكر: اسم جنس لأي كتاب ينزل، كالقرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور، وهو الكتاب الذي أنزل على داود، والمعنى: كتبنا في الذكر وهو اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.

وقال الله تعالى عن آثار الذين يعملون الصالحات {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢] والمعنى: أن كل شيء فعلوه من خير أحصاه في كتاب مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ.

ومما كتب في اللوح المحفوظ: القرآن الكريم، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:٢١ - ٢٢].

وميزة هذه الكتابة أنها لا تبدل ولا تغير، فما كتب في اللوح المحفوظ، من شقاوة العباد، أو سعادتهم، أو تصنيفهم من أهل الجنة، أو من أهل النار لا يتغير بحال من الأحوال، وما كتب فيها من أرزاق العباد، وتغير الأحوال، وأوقات الموت أو الحياة كل ذلك لا يتغير.

ثانياً: كتابة أخذ الميثاق، وهي الكتابة التي أخذ الله جل وعلا فيها الميثاق على عباده عندما خلق آدم، فكانت الكتابة الأولى في اللوح المحفوظ قبل الخلق أجمعين، وكانت الكتابة الثانية بعد خلق آدم، فقد ورد في الحديث: (أن الله لما مسح على ظهر آدم وأخرج ذريته قبضة باليمين وقبضة بيده الأخرى فقال باليمين: هذه للجنة ولا أبالي، وقال في اليد الأخرى: هذه للنار ولا أبالي)، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢]، فإن الله مسح على ظهر آدم فأخرج كل ذريته، وأخذ عليهم الميثاق وكتب عليهم كل شيء.

وفي الصحيحين أن: (النبي صلى الله عليه وسلم: لما سئل: يا رسول الله! أفرغ من الأمر وقضي أم نستقبل؟ -يعني: أكل الذي نعمله قد قضي وكتب، أم أننا نستقبله- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قضي أو فرغ منه، فقالوا: ففيم نعمل؟ -أي: إذا كان كل شيء قد كتب، فكتب أصحاب الجنة وأصحاب النار ففيم العمل؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فمن يسر له شرب الخمر فهو من أهل الخمر، ومن يسر له الزنا والفاحشة والقتل والسرقة والكذب والزور فهو من أهل ذلك، ومن يسأل الله الطاعة والجهاد وطلب العلم والذكر والصلاة فهو من أهل ذلك، فكل ميسر لما خلق له.

وجاء في المسند أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتابان: كتاب في يده اليمنى وكتاب في يده الأخرى، فقالوا: يا رسول الله! ما هذان الكتابان؟ قال: هذا كتاب بيد ربي اليمنى فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وأجمل عليه -أي: أغلق فلا يزاد ولا ينقص- وفي اليد الأخرى أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم وأجمل على ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، ويكون من أهل النار فيختم عليه بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ويكون في الكتاب من أهل الجنة فيعمل بعمل أهل الجنة ويختم له بعمل أهل الجنة) وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في السنن: (إن الله إذا أحب عبداً عسلة قالوا: يا رسول الله! وما عسلة؟ قال: إذا أحب الله عبداً وفقه لعمل الخير، فأماته عليه فختم له بعمل الخير، وإذا أبغض الله عبداً يسر له عمل أهل النار فختم عليه به) نعوذ بالله من ذلك.

ثالثاً: الكتابة العمرية، وهي القدير العمري للإنسان في بطن أمه، كما قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، وكان إبراهيم بن أدهم أو غيره يبكي طيلة الليل والنهار فيطرقون عليه الباب ويقولون: علام تبكي وأنت المتزهد المتعبد؟ فيقول: والله ما أعلم كتبت وأنا في بطن أمي من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة!.

وجاء في الصحيح عن ابن مسعود قال: (أخبرني الصادق المصدوق إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه نطفة أربعين ليلة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وعمله وأجله شقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بيه وبينها إلا ذراع -ويكون في الكتاب أنه من أهل النار- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار.

وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).

وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يجاهد فقال الصحابة: يا رسول الله! هذا من أشجع الصحابة، وهو من أهل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل النار)، وكان الرجل يجاهد شجاعة ويقاتل حمية ويثخن المشركين قتلاً فظن الصحابة أنه من أهل الجنة، ولكن لما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار قال رسول الله: (إنه من أهل النار)، فقال بعض أحد الصحابة: إن رسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فلا بد أن أتتبع الرجل، فتتبع الرجل فوجده يقاتل بشدة وشجاعة ثم جرح، فلما جرح لم يحتمل جرحه فأخذ ذبابة سيفه فوضعها في بطنه فاتكأ عليها حتى قتل نفسه، فقال الرجل: (يا رسول الله! رأيت الرجل الذي قلت فيه: أنه من أهل النار فعل كذا وكذا وكذا، فقال: أشهد أني رسول الله)، فهذا الرجل قاتل وجاهد وليس بينه وبين الجنة إلا ذراع، ولما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار سبق عليه الكتاب وختم عليه بعمل أهل النار فقتل نفسه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة).

ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوكل بالرحم ملكاً فيقول: رب نطفة رب علقة رب مضغة، فإذا أذن الله بخلقه أمره بنفخ الروح، فإذا نفخ الروح قال: رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ متى أجله) فيكتب كل ذلك في صحيفة الملك، وهذه الصحيفة غير صحيفة اللوح المحفوظ، والفرق بين صحيفة اللوح المحفوظ وما كتب فيها وبين هذه الصحيفة: أن اللوح المحفوظ لا يغير فيه شيء ولا يبدل، أما صحائف الملائكة فيمكن أن يغير ما كتب فيها، ولذلك قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩] أي: يمحو ما يشاء في صحائف الملائكة ويثبت ما فيها وعنده الثابت في اللوح المحفوظ وهو في أم الكتاب، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يطوف بالكعبة ويقول: رب إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، أي: إن كنت قد كتبتني في بطن أمي في صحيفة الملك شقياً فامحها وأثبتها عندك في اللوح المحفوظ سعيداً.

رابعاً: -المرتبة الرابعة من مراتب الكتابة- الكتابة العامية، وهذه الكتابة جاءت استنباطاً من بعض الآيات كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:٣] والليلة المباركة هي ليلة القدر، قال ابن عباس: في ليلة القدر يكتب من يموت هذا العام ومن يحيا ومن يولد، ورزقه وأجله، وشقي في هذا العام أم سعيد؟ ويكتب في ليلة القدر حتى الحجاج، قال مجاهد: يمشي الرجل في الأسواق وقد كتب مع الأموات، وقال آخر: يمشي في الأسواق وقد كتب في ليلة القدر أنه مع الحجيج، فهذه الكتابة هي كتابة عامية تكتب كل عام في ليلة القدر.

خامساً: الكتابة اليومية، وهي من قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩]، قال بعض السلف: يرفع أقواماً في نفس اليوم ويخفض آخرين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويحيي ويميت ويعطي ويمنع وينفع ويضر سبحانه وتعالى، وكل ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار)، في الليل: أي: في الفجر، وفي النهار أي: في العصر، وعملهم أنهم يكتبون ما يفعل العباد في اليوم.