للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدب مع الله في عدم نسبة الشر إليه]

وطريق الأدب هذه قد استنبطت من فعل الأنبياء، فخليل الرحمن عندما تكلم عن الشر نسبه لنفسه وهذا من الأدب في نسبه الشر للمخلوق لا للخالق، قال تعالى حاكياً قول إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٧٨ - ٨٠] فنسب المرض لنفسه، مع أن الله جل وعلا هو الخالق للمرض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك) يعني: لا ينسب إليك الشر.

وهذا الأدب نجده كذلك عند مؤمني الجني إذ قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:٩ - ١٠]، فنسبوا الرشد لله جل وعلا، والشر بنو الفاعل فيه للمجهول؛ تأدباً مع الله جل وعلا.

وكذلك قصة الخضر يظهر فيها التأدب مع الله كما في قوله تعالى حاكياً عن الخضر جوابه على أسئلة موسى عليه السلام: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨٠ - ٨١]، وقال عن الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:٨٢].

فنسب إرادة بلوغ الغلامين أشدهما إلى الله تعالى؛ لأنه خير، ولكنه في خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] فنسب إرادة العيب لنفسه؛ تأدباً مع الله تعالى.

وقد علمنا الله جل وعلا الأدب معه في مسألة الشرور، وأنه لا ينبغي أن ننسبها له، بل ننسبها للمخلوق نفسه، فإن النقص صفة لازمة للمخلوق، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:١ - ٢] يعني: من شر هذه المخلوقات، فالشر يكون في المفعولات، لا في فعل الله تعالى: وكذلك قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:١ - ٤]، فالشر صفة لازمة للشيطان اللعين.

ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتأدب أيضاً بهذه الآداب، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه وشَرَكِه)، فنسب للشيطان الشر والشرك، مع أن الله جل وعلا هو الخالق لكل شيء.

ومن الأدب مع الله في نسبة الشر أن ندخله في مطلقات وعمومات الخلق، ولا نفرده، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] والشر شيء، فهو داخل في هذا العموم.

فالآداب التي لابد أن يتأدب بها المرء في نسبة الشر إلى الله جل وعلا هي ما يلي: إما أن يبني الفاعل للمجهول: كقوله تعالى: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:١٠]، أو ينسب الشر لنفسه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠]، أو ينسب الشر لخلقه، كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:٢]، وقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:٤]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله من شر الشيطان وشِركه وشَركه).

وإما أن يدخله في العموم كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦].

فإذا سأل سائل وقال: هل خلق الله الشر؟ فإنك إذا أنكرت أثبت خالقاً غير الله جل وعلا، وإذا أثبت أسأت الأدب مع الله، فالجواب السديد أن تثبت، ولكن بقيد، وهو أن الله خلق الشر في مفعولاته، وأما فعل الله فكله كمال وخير.