للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة القرآنية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح]

فأما من الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:٨٢].

فما ذكر الله الإيمان في موضع من كتابه إلا وذكر قرينه العمل الصالح، إشارة إلى أن الإيمان الذي وقر في القلب لا بد أن يصدقه شيء في الظاهر، وهو العمل؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢]، هذا في الداخل لا نعرفه ولا نراه، ثم قال الله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢]، والتوكل هذا عمل باطني، ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:٣]، فذكر الصلاة والإنفاق، وهذا عمل ظاهري؛ وذلك لأن هناك ترابط وثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح.

ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:١١] فلأن التوبة عمل قلبي لم يكتف الله بذلك، ولم يرض بها فقط حتى يدخل المرء الإسلام، بل ربط التوبة بما يظهرها وهو العمل الصالح: كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك قال العلماء: إن الفاسق لا تقبل شهادته إلا أن يتوب، وكيف تعرف توبته؟ يقول الجمهور من أهل العلم: إن التوبة تكون بالظاهر، فإذا استقام مع الناس في الصلوات، وكان يخرج الزكاة، وعلم باستقامة حاله وحسن خلقه، فهذه هي التوبة، أي: الأمر الظاهري، مع أن التوبة عمل قلبي، لكن لا بد من الأمر الظاهري؛ ليتبين ما في القلب.

ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى عن جزاء المحاربين وعن توبتهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣٣ - ٣٤].

اختلف العلماء في توبة المحارب الذي تقطع يده ويصلب وينفى من الأرض، أي: كيف تعرف؟ فـ ابن القاسم المالكي قال: لابد أن يذهب إلى الأمير ويشهر توبته، وهذا قول المالكية.

وقال جمهور الفقهاء -وهو الراجح- إنه يقطن بيته، ويذهب إلى الصلاة في أوقاتها، ويحسن خلقه مع جيرانه ومع الناس فتعرف بذلك توبته.

فهذه التوبة التي هي عمل قلبي، ظهرت على الجوارح في الخارج، كما قال الله تعالى في الآية التي ذكرناها سابقاً {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:١١].

وأيضاً قال الله تعالى -مبيناً أن تشابه الظاهر مرتبط بتشابه الباطن- قال عن اليهود لعنة الله عليهم: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:١١٨]، فربط الظاهر بالباطن، فلما تشابه الظاهر بالظاهر، تشابه الباطن بالباطن، وهذه دلالة على أن الترابط وثيق بينهما، وسنة الله لا يمكن أن تتبدل.

أيضاً قال الله تعالى عن النفاق والمنافقين؛ لأن النفاق عمل قلبي، فمن أجل أن نعرفه قال الله تعالى لنبيه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:٣٠].

فأنت تعرفه أولاً من خلال وجهه؛ لأن ما في القلب يظهر على الوجه، تراه فتقول: وجهك وجه منافق، أذكر شيخاً من مشايخنا أفنى عمره في الدعوة، جلس مرة فقال: رأيت من الناس مفتي من المفتيين، ورأيت النفاق ينضح على وجهه نضحاً.

وثانياً: تعرفهم من خلال كلامهم، فبعضهم تسمعه يقول: هل نأخذ علمنا من رجل يقول: من قال: إن الأرض كروية يكفر؟ نأخذ العلم من هذا!، والله هذا نفاق بين، أو آخر يقوم علناً أمام الناس فيقول: أتريدون تحكيم الشريعة؟ تريدون قطع يد السارق، ما هذا التخلف، مع أن هذا حكم الله من فوق سبع سماوات، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا نفاق ينضح، وآخر يقول: أتريدون جلد الزاني مائة جلدة؟ والله هذه وحشية.

فهؤلاء أصبح النفاق ظاهراً على وجوههم وفي كلامهم.

أيضاً: قال الله تعالى -منكراً على بني إسرائيل، ومبيناً أن الإيمان، أو الكفر الذي في القلب، لا بد أن ينضح في الخارج- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:٩٣]، أي: إذا كنتم مؤمنين حقاً فلم عبدتم العجل؟ ولم أطعتم غير الله تعالى؟ بل هذا كفر في قلوبكم.

أيضاً: من الأمور التي تبين ارتباط الظاهر بالباطن: أن الله سمى أعمال الظاهر إيماناً، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣]، فبإجماع المفسرين أنها الصلاة، وكما في حديث البخاري عن البراء -الطويل- وفيه أنه قال: (هي الصلاة)، وذلك حين حولت القبلة إلى الكعبة، فقال القوم: ما بال إخواننا الذين ماتوا، وما بال صلاتنا التي صليناها من قبل فقال الله جل وعلا تطميناً لقلوبهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣]، فسمى الصلاة إيماناً.

أيضاً: بين الله جل وعلا الارتباط الوثيق في كتابه بين الظاهر والباطن، وأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:١٤٠] فبين الله جل وعلا أن هؤلاء الذين يجلسون في المجالس التي يكفر فيها بالله، أو يستهزأ فيها بآياته، أو بأوليائه الصالحين، دون إنكار، فإن هؤلاء من يجلسون معهم فيهم نفس الكفر؛ لأن القلب نضح وظهر ما فيه، فهو ساكت راض بهذا الكفر، فصاحبه كافر مثلهم.

لذلك استنبط العلماء قاعدة مهمة جداً من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قولهم: إن لم تزل المنكر فزل.

أي: اخرج فلو جلست فأنت مثلهم؛ لأنك راض بفعلهم، فإن جلست مع شراب الخمر، ولم تنههم وتنكر عليهم، فأنت مثلهم، إن جلست مع الزناة ولم تنكر عليهم، بل ولم يتحرك قلبك غضباً لله جل وعلا فأنت منهم.

فهذه أدلة من كتاب الله جل وعلا على أن الظاهر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالباطن.