للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الاستثناء في الإيمان]

الجزء الثاني الذي نتكلم عنه في باب الاستثناء في الإيمان، كأن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا الأمر زلت فيها الأقدام حتى بين أهل السنة والجماعة، فقد حدث خلاف عريض بينهم، وهي على أقوال كثيرة نحصرها في أربعة أقوال: القول الأول: قول الجهمية ومرجئة الأحناف الذين قالوا: إن الاستثناء في الإيمان لا يجوز، فعندهم لو قال المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو كافر، مع أن مرجئة الأحناف التكفير عندهم بعيد، لكنهم قالوا: لو قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهذا يكفر بذلك؛ لأنه بالاستثناء كأنه شك في دين الله، والله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] أي: لم يشكوا، فليس هناك ثمة ريب ولا شك، فهذا قول مرجئة الأحناف.

والجهمية قالوا: لا يجوز أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ولو قال بذلك فهو شاك في دين الله ويكفر.

والشافعية قالوا: يجوز الاستثناء في الإيمان، ولذلك من الطرائف أن الأحناف قالوا: يجوز للحنفي أن ينكح الشافعية قياساً على أهل الكتاب؛ لأن الشافعية يقولون: يجوز للمرء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

القول الثاني: قول الشافعية وجمهرة من أهل السنة والجماعة: وهو أنه يجب على المرء إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول: أنا مؤمن بالجزم، فالأحناف وأصحاب القول الأول لابد عندهم أن يقول: أنا مؤمن، جزماً، أما أصحاب القول الثاني فنظروا للمآل والمستقبل والآخرة، فقالوا: وجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣ - ٢٤].

وأيضاً قالوا: لنا في ذلك أدلة أخرى وهي أن الذي يقول: أنا مؤمن، جزماً، قد زكى نفسه ووقع في المحذور، وقد قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢].

وهناك قول آخر: وهو إذا قال: أنا مؤمن دون أن يقول: إن شاء الله، فأي مراتب الإيمان يكون فيها، العليا أم الوسطى أم الدنيا؟ وهذا مخالف لطبيعة الإنسان، فالإنسان ظلوم جهول، والإنسان ينسى ويخطئ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فهو إذا لم يلتزم بفعل الواجبات وترك المحرمات يكون كاذباً في دعواه.

إذاً: فأصحاب هذا القول نظروا للمآل؛ لأن المؤمن جزماً يكون منتهاه إلى الجنة، لكن لا أحد يجزم أنه في الجنة، فـ أبو بكر نفسه رضي الله عنه وأرضاه قال: (لو وضعت اليمنى في الجنة وبقيت اليسرى خارجها فإني لا آمن مكر الله) وعمر بن الخطاب الفاروق -وما أدراكم ما عمر - يقول: (لو نودي في عرصات القيامة: أن كل من في عرصات القيامة يدخل الجنة إلا رجل لقلت: أنا) فلا يأمن أحد مكر الله جل وعلا.

وفي الحديث: (أن رجلاً من بني إسرائيل كان يمر على صاحب له يعصي الله جل وعلا فينصحه في الله، وكان لا يأخذ بالنصيحة، فلما تضايق منه قال له: والله لا يغفر الله لك، فقال الله: من ذا الذي يتألى عليَّ -أي: من ذا الذي يقسم؟ - قد غفرت له وعذبتك).

فالمآل يعلمه الله جل وعلا، ويدل لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح المرء مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وقال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يدعو الله جل وعلا أن يثبت قلبه، فالمآل إلى الله جل وعلا لا يعلمه أحد.