للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخلاف في توبة القاتل]

الصورة الثالثة: القتل، وهذه الصورة مشكلة، وفيها خلاف كثير بين العلماء، يعني: رجل قتل نفساً مسلمة، فأراد أن يتوب، فهل له توبة؟ وما شروطها؟ نقول: مسألة قاتل النفس المؤمنة عمداً، وهل له توبة أم لا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -معلم ابن عباس - وهو لـ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أنه ليس له توبة، ولأصحاب هذا القول في ذلك أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر فقالوا: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣].

فهذه الآية صريحة، وهي من أقوى الأدلة على خلود القاتل في النار، وإن كان مسلماً، كما أن فيها قوله تعالى: ((وَلَعَنَهُ) واللعن: أصله الطرد من رحمة الله جل وعلا.

وقالوا أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (لا يزال المؤمن في سعة من دينه ما لم يصب دماً حراما)؛ لأنه من الإفساد في الأرض.

ويستدل لهم أيضا بالقياس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين- أنه قال: (من قتل نفسه بحديدة فهو بحديدته يتوجؤها في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، ومن تحسى سماً فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا قاتل نفسه، ونفس الغير تساوي نفسه، فالعلة مشتركة، إذاً: فالقياس صحيح، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩].

والعلماء لما تلكموا في قاعدة الإكراه قالوا: إن الله جل وعلا رفع عن المكره الإثم إلا في القتل والزنا، فلو أكره على شرب الخمر يشرب، ولو أكره على أن ينطق كلمة الكفر ينطق، ولو أكره على الزنا لا يفعل؛ لأن عرض أخيه مثل عرضه، ولو أكره على القتل فإنه لا يفعل بالاتفاق؛ لأنهم قالوا: إن نفسه ليست بأولى من نفس أخيه، فبالقياس على هذا الحديث أن يقال: إذا كان قاتل نفسه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، فقاتل غيره يأخذ نفس الحكم، وهذه أدلة قوية جداً لهذا الفريق.

أما دليلهم النظري فقالوا: إن التوبة للقاتل لا بد أن تتوفر فيها أربعة شروط: الشروط الثلاثة المعروفة، والشرط الرابع أن يتحلل، وكيف يتحلل وهو قد أزهق روح أخيه ولا يستطيع ردها؟ فيتعذر عليه -نظراً- أن يتحلل، ونحن قلنا: إن التوبة في حق الغير لا يمكن أن تقبل عند الله جل وعلا حتى تكتمل الشروط الأربعة، وهذا يتعذر عليه أن يتحلل، ويتعذر عليه أن يرد الروح في هذا الجسد، فقالوا: فإن كان باب التحلل والأداء مغلق، فقد تعذر عليه التوبة، فلا توبة لقاتل.

القول الثاني: قول الجمهور من الفقهاء والمحدثين، وهو أنهم قالوا: للقاتل توبة، وعندنا أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر: فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣].

فالذنوب: جمع معرف بالألف واللام فيفيد العموم، أي: كل الذنوب، فيدخل فيها القتل، ويدخل فيها الشرك كذلك، لكن بشرط أن يكون تائباً، والذي جعلنا نقيد هذا القيد أو نشترط هذا الشرط -مع أن ظاهر الآية العموم: ((يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) - هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء، أي: دون الشرك كالقتل، فهو دون الشرك.

إذاً: القتل يدخل في نص الآية بأنه في مشيئة الله جل وعلا، فإذا كان في مشيئة الله فالنتيجة عدم الخلود في نار جهنم؛ لأن الكافر الذي يخلد في نار جهنم لا يدخل في مشيئة الله جل وعلا، أي: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، بل هو معذب حتماً بنص قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ))، فإذا كان القاتل تحت المشيئة، فهو لا يخلد في النار، إذاً: فله توبة.

واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٦٨ - ٧٠]، إذاً: فليس له التوبة فقط، بل يبدل الله سيئاته حسنات فوق ذلك.

لكن الفريق الأول ردوا عن الاستدلال بهذه الآية، فقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنا نرى اللين في هذه الآية: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قلنا: حتى قاتل النفس، حتى المشرك، حتى الزاني، إذا تاب يبدل الله سيئاته حسنات، هذا لين عظيم جداً، ثم نزلت الشدة في هذه الآية: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)).

فهو رضي الله عنه يلمح بأن هذه ناسخة للآية الأخرى، وهذا الذي صرح به ابن عباس -أي: لمح زيد وصرح ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه- حين قال: لا توبة للقاتل، فقالوا له: كيف تفعل بهذه الآية، فقال: هذه الآية منسوخة، هذه كانت في أقوام من أهل الكفر يزنون ويشربون الخمر، ويقتلون ويسرقون، فجاءوا يسلمون في مكة، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغفر لهم ما قد سلف، فنزلت هذه الآية في مكة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٧٠]، ثم نزلت آية النساء في المدينة، والمتأخر ينسخ المتقدم، أي: ما نزل في المدينة ينسخ ما نزل في مكة، هكذا قالوا، وسنبين كيف ردوا عليهم.

واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢].

وجه الشاهد قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:٨٢].

ووجه الدلالة: أن (من) تعتبر من الأسماء المبهمة، أي: أنها اسم موصول بمعنى الذي، وهي من ألفاظ العموم، فمعنى الآية: أي أحد تاب، سواء أكان مشركاً، أم كان قاتلاً، فإن الله يغفر له ما دام قد تاب من ذنبه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢].

قالوا: وعندنا من الأحاديث ما يثبت ذلك، أولها ما ورد: (أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب إلى راهب -عابد- فسأله: هل لي من توبة؟ قال: قتلت تسعة وتسعين نفساً، ليس لك توبة، فقتله، فأكمل به المائة -وهذا فيه دليل على أن الفرق كبير بين العابد والعالم، فشتان شتان بين القمر وسائر النجوم، فإن العالم وريث النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كالقمر والعابد كالنجوم، والفرق بينهما كبير- ثم ذهب إلى عالم، فقال: قتلت مائة نفس، هل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً صالحون فاعبد الله جل وعلا معهم، فذهب الرجل ليتوب إلى الله، فقبض في الطريق)، إلى آخر القصة، فالمقصود: أنه قد قتل مائة نفس ومع ذلك فإن العالم دله على التوبة، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

لكن يشكل علينا أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل، فكيف نستدل بها على ما نحن فيه؟ نقول: الخلاف الأصولي كبير في مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فـ الشنقيطي وغيره يرجح: أنه ليس بشرع لنا على الاتفاق، لكن الصحيح الراجح ما قاله الجمهور، وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه.

ومثال النسخ ما جاء في الطهارة، فقد كان في زمن بني إسرائيل إذا وقعت النجاسة على الثوب، فإنهم يقرضونها ويقطعون مكانها، لكن الله جل وعلا خفف علينا، وجعل في الماء طهوراً لنا.

واستدلوا من الحديث أيضاً بحديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نزني، ولا نشرك بالله، ولا نقتل أولادنا، إلى آخر ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له).

فإذا كان كفارة له فهذه توبة، فهو لا يخلد في النار، فوجه الشاهد: قوله: فهو كفارة له، ووجه الدلالة أنه لا يخلد في النار.

واستدلوا أيضاً بحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: عبدي! إن أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً -هذا قيد وشرط مهم جداً- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة)، وجه الشاهد: قوله: بقراب الأرض خطايا.

ووجه الدلالة: أن خطايا نكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، أي: يدخل في ذلك كل الخطايا ما عدا الشرك؛ لأنه اشترط بعد ذلك عدم دخوله.

إذاً: فهذا الحديث أيضاً حجة لمن يقول بأن القاتل له توبة؛ لأنه مهما أتى الله جل وعلا بأي ذنب غير الشرك فإن الله يتوب عليه، فإنه سبحانه سوف يأتيه بقرابها مغفرة.

وهناك أحاديث كثيرة استدلوا بها على أن القاتل له توبة، ولكن نكتفي هنا بما ذكرنا.

أما استدلالهم من النظر، فقد استدلوا بقياس الأولى، حيث قالوا: المشرك أو الكافر له توبة، ومعروف أن الشرك أعظم الذنوب، وهو أكبر الكبائر، فما بالكم بالأقل منه، يعني: الكافر الذي أشرك بالله جل وعلا له توبة، وفتح الله له الباب على مصراعيه أن يتوب، فمن باب أولى ما هو دون الشرك