للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأحوال التي يجوز فيها الكذب]

ذكر المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب، ونحن نعلم أن الكذب حرام؛ لعموم النهي عنه، فهل يستثنى من هذا العموم شيء؟ نقول: نعم، يستثنى من هذا العموم في حرمة الكذب ثلاثة أحوال سنبينها، وقبل ذكرها نقرر قاعدة مهمة تنفع طلاب العلم عند سيرهم في هذا الطريق: القاعدة الأولى: من مقاصد الشريعة: درء المفاسد وجلب المصالح, وتمخضت هذه القاعدة وهذا المقصد قواعد كثيرة منها: أولاً: إذا تعارضت مصلحتان لا يمكن الجمع بينهما قدمت الكبرى على الصغرى.

ثانياً: إذا تعارضت مفسدتان لا يمكن دفعهما معاً دفعت الكبرى واحتملت الصغرى، وكل ذلك مستند لآيات وأحاديث منها: قول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨]، فبالرغم من أن مسبة الآلهة التي تعبد من دون الله طاعة وقربة إلا أن الله جل في علاه نهانا عن ذلك مراعاة للمفاسد والمصالح؛ لأنك إذا سبيت آلهتهم فستدفعهم إلى سب الله جل في علاه.

ومن الأدلة أيضاً: ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم)، فلم يفعل ذلك من أجل المصلحة والمفسدة.

أما بالنسبة لتعارض المفاسد مع المصالح، فإن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح؛ ولذلك حرم الله تعالى الخمر مع أن فيه منافع، لكن المفسدة فيه كانت أعظم من المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:٢١٩]، مفسدة كبيرة، {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩]، ففي هذه الحالة نرفع المفسدة الكبيرة الموجودة في الخمر: من زوال العقل وانتشار الفساد والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، ويكون درء هذه المفسدة العظيمة أولى من جلب المصلحة الكامنة في الربح الزهيد المترتب على بيع الخمر ونحوه.

ومثال تعارض المصلحة مع مصلحة أخرى: إذا تعارضت مصلحة رفع إعلاء راية لا إله إلا الله ونصر المسلمين مع مصلحة حفظ نفسك التي تسجد لله وتنكأ في أعداء الله، فعند ذلك تقدم المصلحة الكبرى المتضمنة إعلاء كلمة التوحيد على حساب تفويت المصلحة الصغرى الكامنة في حفظ النفس الذي هو من مقاصد الشريعة.

أما إذا تعارضت مصلحة العامة مع مصلحة الخاصة فإنها تقدم المصلحة العامة على الخاصة، وهذا مثل تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي، فمن مقاصد الشريعة تقديم المصلحة العامة مصلحة المجتمع على مصلحة الخاصة أو الفرد.

إذاً: يجوز أن يكذب الإنسان مراعاة للمصالح والمفاسد، ومراعاة لمقاصد الشريعة، وهذا هو التأصيل العلمي لهذه المسألة، فنقول: يجوز الكذب في ثلاثة أحوال: الأولى: الإصلاح بين الناس, فللمرء أن يكذب من أجل الإصلاح بين الناس، إذ إن الإصلاح بين الناس هو من أسمى ما يكون في التعامل بين المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:١٢٨]، وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤]، (وفساد ذات البين هي الحالقة)، فهي التي تضيع الأمم، وما التشرذم والتفرق وعدم الوحدة الذي نعيشه الآن إلا بسبب التفكك وعدم الترابط, فالله جل وعلا حذرنا من فساد ذات البين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) , ففساد ذات البين هو سبب التدابر والتباغض, وهو سبب التشرذم والتفرق الحاصل للأمة كما هو حال واقعنا المعاصر الذي نعيشه الآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فللمرء هنا أن يقع في هذه المفسدة الصغرى -وهي الكذب- لدرء المفسدة الكبرى: وهي فساد ذات البين، فله أن يكذب بين قبيلة وقبيلة، أو دولة ودولة، أو أشخاص وأشخاص؛ حتى يصلح بينهم, فللمرء أن يذهب إلى زيد وعمرو مثلاً، فيقول لزيد: سمعت عمراً يثني عليك ثناء عالياً، فهو يرى فيك رجلاً يقتدى ويتأسى به فتلين قلبه بالكلام الطيب حتى تصلح بينهما, فهذا يجوز من باب غمر المفسدة الصغرى في خضم المصلحة العظمى الكبيرة: ألا وهي التآلف والتواد والترابط، كما قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦]، فإن العزة والقوة تكون في التلاحم والترابط، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس أو الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً) يعني: أنه يكذب، لكنه مأجور عند الله جل في علاه بسبب الكذبات؛ لأنه يأتي بالإصلاح, فهذه أول الحالات التي يمكن للإنسان أن يكذب فيها من أجل مصلحة أكبر.

الحالة الثانية: بين الرجل وزوجته: كأن يبغض الرجل زوجته بسبب صعوبة التعامل معها وعدم لينها معه، فمثل هذا يجوز أن يكذب عليها فيقول: كأني أرى قطعة من القمر أمامي، وأنا أحبك أكثر من نفسي، فالشرع أجاز له أن يكذب عليها، مع أنه يريد أن يلوي عنقها، وأباح له أن يكذب على زوجته حتى في الأموال التي معه؛ من أجل أن يؤلف قلبها؛ لأنه يعلم أن المقصود من الزواج: حصول السكن والمودة والرحمة، كما قال عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:١٩]، ومن المعروف: أن تكذب عليها حتى تطيب قلبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء) ومن الغريب: أن هذا الكذب يعد من باب التقوى في النساء؛ لأنهن ناقصات عقل ودين, وهذا أيضاً من المفاسد التي يجوز الوقوع فيها مراعاة للمفسدة الكبرى التي قد تقع بسبب هذه العقول الخربة؛ لأن الإنسان لو وقف أمام زوجته موقف الرجل الصنديد الصلب فإنه إما أن يجن وإما أن يقتلها، فلابد أن يصلح من حاله معها ولو بالكذب عليها؛ حتى يحصل المقصود من الزواج، وقد جاء في مسند الإمام أحمد حديث فيه ضعف: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعدما حذر من الكذب: (إلا لرجل يكذب على أهله)، أي: يتلطف مع أهله بالمحبة والود.

الحالة الثالثة التي يجوز فيها الكذب: الحرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، فيجوز لك أن تكذب على الكافرين في الحرب، ولو اتهموا الإسلام بالكذب، فتقع في المفسدة الصغيرة وهي الكذب من أجل المصلحة العظمى المتمثلة في نصرة هذا الدين ورفع رايته، لكن هل للرجل المجاهد إذا أراد الدخول إلى دولة ما أن يكذب وأن يزور لأجل هذه المصلحة؟

الجواب

لا بد له من مراعاة أمور قبل ذلك، فإذا دخل بأمان هذه الدولة، فهل له أن يخون هذا الأمان أم لا؟ وهل هذه البلدة حربية ضد الإسلام أم لا؟ فهذه ضوابط لا بد أن يعرفها من يريد التزوير أو الكذب في الحرب، وسيأتي الكلام عنها بمشيئة الله تعالى.

والغرض المقصود: أنه يجوز للمرء في هذه الحالات الثلاث أن يرتكب المفسدة الصغيرة لاستجلاب مصلحة أكبر منها.

والخلاصة في هذا: أن المرء يجوز له أن يفعل المحرم مثل الكذب، لجلب منفعة لا يستغنى عنها، أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب، ومثل هذا: أن يكذب التاجر على صاحب الضرائب مدعياً الخسارة في تجارته وعدم الربح ليتهرب من هذه المكوس المحرمة؛ لأنه يدفع هذه المفسدة العظمى بمفسدة صغرى، وهي الكذب.

رجل أيضاً من المؤمنين مطارد من قبل الظلمة، وهذا الرجل المؤمن دخل عند رجل آخر فجاء إليه هذا الظالم وسأله عن الرجل المؤمن، وهذا الرجل يعلم أن هذا الظالم يريد قتل المؤمن، ففي هذه الحالة يجوز لهذا الرجل أن يكذب ويدعي عدم وجوده عنده؛ لأن هذه المضرة المتمثلة في القتل لا تندفع إلا بالكذب فجاز.

كذلك: إذا احتاج إلى شيء ضروري لا غنى له عنه، ولا يمكن أن يحصله إلا بالكذب فله ذلك، كما أنه لو أراد أن يحصل على منفعة ضرورية لا غنى له عنها، ولا يحصلها إلا بأن يرشي هذا المرتشي الذي يأكل سحتاً، فيجوز أن تعطيه؛ لأنه لن يمشي لك هذه المعاملة التي هي حق صرف لك إلا بذلك.

إذاً: ضابط هذا الأمر أنك تقع في هذه المفسدة الصغيرة لدفع مضرة ستقع عليك لا تندفع إلا بالكذب، أو جلب مصلحة ضرورية لك -وهذا القيد مهم- لا يمكن أن تجتلبها إلا بهذا الكذب، وقد قال العلماء: لا بد أن تكون هذه الضرورة أخروية لا دنيوية, فلا يكذب من أجل أن يتحصل على مسألة دنيوية تنفعه في دنياه دون آخرته، هذا ضابط الكلام في جواز الكذب.