للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب القدر]

ثم قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره, وحلوه ومره, كل من عند الله عز وجل.

القدر هو قدرة الله, وسر من أسرار الربوبية, استأثر الله بعلمه، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩].

ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن به؛ لأنه ركن من أركان الإيمان.

وحتى يستقيم إيمان العبد بالقدر لا بد أن يؤمن بالقدر، وهو على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل, والإيمان بأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.

المرتبة الثانية: الإيمان بالكتابة, وأن الله كتب كل شيء, والكتابة على مراحل: كتابة في اللوح المحفوظ, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما خلق القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).

المرحلة الثانية: الكتابة العمرية, وهي عندما يأتي الملك يقول: يا رب! ذكر أم أنثى؟ يا رب ما العمل؟ يا رب! ما العمر؟ ويكتب ما يؤمر به.

الكتابة الثالثة: الكتابة العامية أو الكتابة الحولية كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]، وقال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:٤]، قال ابن عباس: يكتب أهل الحج والأموات والأحياء في هذا العام.

المرحلة الرابع: الكتابة اليومية: كتابة الملك الذي معك, فكل عبد معه رقيب وعتيد.

المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: المشيئة, ومشيئة الله عامة, إن شاء الله شيئاً كان وإن لم يشأ لم يكن.

المرتبة الرابعة: الخلق.

إذاً: علم, فكتابة, فمشيئة, فخلق, هذا إجمال الكلام على القدر.

ثم فصل سفيان أيضاً فقال: يا شعيب بن حرب! تالله! ما قالت القدرية ما قال الله.

(ما) الثانية ليست نافية, بل هي اسم موصول, والمعنى: والله! ما قالت القدرية الذي قاله الله, فقد خالفت قول الله وخالفت قول الملائكة وخالفت قول المؤمنين.

ثم ارتقى وقال: حتى خالفت صاحبهم إبليس.

القدرية هم الذين يقولون: إن القدر علم فقط، فينكرون مراتب القدر الأخرى، وعندهم أن الله جل وعلا لا يعلم فعل العبد إلا بعدما يفعله العبد، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:٢٣] الشاهد قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] أي: أن الله بيده الإضلال والهداية, وهم ينكرون ذلك, ويقولون: الذي ضل ضل بفعله, والذي اهتدى اهتدى بفعله, والله يكذبهم ويقول: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] وأنا أوضح نقطة مهمة جداً وهي: ليس الفرار من الكلام على الجبرية أن نقول: إن الله ما أجبر العبد على فعل, هذا ليس بصحيح.

فالصحيح الراجح: أن الله جل وعلا أجبر الفاسق أن يكون فاسقاً, لكن بعد أن أحب الفسوق وفضل الفسوق على الهدى, فالله جل وعلا ختم على قلبه، وفتح عليه باب الفسوق, لكن القول بأن الله علم أن هذا الفاسق فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ فاسق بعلم الله فقط, فهذا ليس إجباراً, وإنما هو علم أنه فاسق؛ لأنه يعلم ما يكون, فعلمه أنه فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ.

والقدرية على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الذين ينفون علم الله جل وعلا, وأن الله لا يتحكم بفعل العبد, ولا يتحكم في إرادة العبد, فالعبد هو الذي يتحكم في إرادته، وله إرادة مستقلة، وعندهم أن العبد خلق أفعاله بنفسه.

فنقول: إن الله عز وجل يتحكم في أفعالنا، لكنه يتحكم في أفعال العباد لحكمة، والله حكيم ويضع الشيء في موضعه, والله جل وعلا له المشيئة العامة، فكل شيء تحت حكمته, والله جل وعلا يقول: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:٣١].

لمعترض أن يقف ويعترض ويقول: لماذا أنا لم يشأ الله جل وعلا أن يدخلني في رحمته, وأدخل فلاناً وفلاناً في رحمته؟ فنقول له: انظر إلى ختم الآية أو انظر إلى سابقتها قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:٣٠]، فهو يعلم أنك لست أهلاً للهداية.

فالله حكيم يضعك في موضعك, قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٦].

ولذلك قال الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥] وهذا إثبات أن الله تحكم فيه وأجبره على الفسق لكن بعدما زاغ هو, وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧] فأغلق الله قلوبهم.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] لم؟ لم لا يؤمنون؟ أيضاً قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠]، كذلك قال الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:١٥٥]، والتصريح هنا (فتنتك) أولاً ثم التصريح في الآية {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:١٥٥]، فالإضلال والهداية بيد الله جل وعلا, وكما قال الله على لسان نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:٣٤] فالله سيغويهم ولا يصح القول بأن الله تحكم في إراداتهم فالله ظالم, حاشا لله, فالله حرم على نفسه الظلم, والله عادل وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين, ومن حكمته وعدله أنه يضع الضلال فيمن يستحق الضلال.

وقال تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:٨٩].

ووجه الشاهد قوله: (يشاء ربنا) وفيه إثبات مشيئة الله جل وعلا.

وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف:٤٣] أي: أن الهداية والإضلال بيد الله جل وعلا, وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦] فالشقاء قد كتب في اللوح المحفوظ عليهم, وهذا هو وجه الشاهد.

وخالفوا قول أخيهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩] فأثبت أن الغواية بيد الله.