للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علم أبي بكر الصديق]

إن كان أعلم الناس على الإطلاق بأمر الله ونهيه هو رسول الله، فإن أبا بكر أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال رسول الله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

وعزم على الصحابة أن لا يؤمهم إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (كيف يؤم القوم أحد وفيهم أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه، وكان يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).

فهو أقرأ الناس لكتاب الله وأحفظهم له، بل هو أفقه الناس في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بين يدي أصحابه، كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين فقال: (خير الله عبداً من عباده بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فانكب أبو بكر باكياً فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله! فقال أبو سعيد: فاندهشنا من أبي بكر، رجل يخير بين ما عند الله وبين الدنيا فاختار ما عند الله، فما يبكيه؟! قال: فكان ذلك إشارة لدنو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر أعلمنا وأفقهنا لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وكان عند أبي بكر العلم الذي لم يكن عند صحابة رسول الله، لكن النووي بين أن أبا بكر كان قليل الحديث؛ لانشغاله بالخلافة كما سنبين، فكان عنده من العلم ما لم يكن عند صحابة رسول الله، وعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد الأمر على الصحابة ولم يعرفوا ماذا يفعلون مع رسول الله، وهل يكشفون ثيابه عنه أم لا؟ وهل يدفنونه في البقيع؟ أم أين يذهبون به؟ وهل يغسلونه أم يتركونه؟ فكل هذه المسائل لا علم عندهم بها، فجاء أبو بكر فدخل على رسول الله وقبل بين عينيه وقال: طبت حياً وميتاً.

ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: عندي من ذلك العلم، قال رسول الله: (إذا مات نبي لا يقبر إلا في مكانه) يعني: في المكان الذي مات فيه، وهذا العلم خفي على كل الصحابة إلا على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يغسل في ثيابه، ولا تخلع الثياب منه.

وأيضاً: في مسألة الكلالة، كان الرجحان في كلام أبي بكر رضي الله عنه.

وفاطمة لما ذهبت إلى أبي بكر وقالت: أريد ميراث أبي.

فقال لها: إن أباك لا يورث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وكان هذا العلم ليس عند أحد إلا عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

وانظروا إلى فقهه لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه البديع، فقد اختصم هو وعمر وكثير من الصحابة في قتال مانعي الزكاة، فقال عمر: يا أبا بكر! كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف تقاتل قوماً قال فيهم رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهم يقولون: لا إله إلا الله؟! فقال أبو بكر بقياسه البديع وذكائه الوقاد: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -فهما قرينان في كتاب الله جل وعلا- ولو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.

فبقياسه البديع باقتران الصلاة والزكاة جاء أبو هريرة ومعه نص صريح من رسول الله فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة).

فوافق قياس أبي بكر بعلمه الدقيق نص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكان الصديق أعلم الصحابة وأفقههم على الإطلاق، وكانت له الحصيلة الكبرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي منعه من التحديث هو انشغاله بالخلافة، رضي الله عنه وأرضاه.