للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مكانة أبي بكر عند رسول الله]

أما مكانته عند رسول الله فهو الصاحب، وهو الذي اقترن ذكره بذكر رسول الله لما قال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] أي: معية النصرة والتأييد كما شرحنا، وأيضاً: معية الذكر، فلا يذكر الله جل وعلا إلا ويذكر مع ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: لا يذكر رسول الله إلا ويذكر معه غالباً خليفته أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

ولما جاء أبو بكر قال: (يا رسول الله! الهجرة الهجرة).

وكأنه يقول: أنت أذنت لأسد الله أن يهاجر، وكذا لـ عمر بن الخطاب ولكثير من الصحابة، أي: أذنت لهم أن يهاجروا وأنا أريد الهجرة في سبيل الله، فقال: (يا أبا بكر! امكث لعل الله يجعل لك صاحباً).

انظروا إلى هذا الفضل العظيم، فالله جل وعلا يبقي أبا بكر ولا يأذن له بالهجرة، مع أن قلبه شغوف بها، ويبقيه الله لأمر عظيم ولأمر جلل، هو صحبة رسول الله.

ولما جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم، فقال: (أعندك أحد؟ قال: هم أهلك يا رسول الله! فقال: أريدك في أمر، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة يا أبا بكر!).

فبكى أبو بكر وجهز الرواحل وذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما دخل الغار دخل مقدماً على رسول الله يقول: شمس الإسلام لا تشرق إلا من قبل رسول الله، أما أنا فكآحاد المسلمين لو مت مت فرداً من الأفراد، فدخل الغار ثم سد كل فتحة من فتحات الكهف، فما بقيت إلا فتحة واحدة، ودخل رسول الله فسدها أبو بكر برجله الشريفة فلدغته حية، فما أراد أن يوقظ رسول الله.

مما يدل على قوة الصحبة، امتلاء قلب أبي بكر بحب رسول الله، وكان رسول الله نائماً على فخذ أبي بكر رضي الله عنه فخشي أن يوقظ رسول الله حتى بعد أن لدغته الحية، فما تحرك لمكان رسول الله من فخذه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دموع أبي بكر التي سقطت على وجهه، فلما علم الخبر وضع يده الشريفة على رجله، فبرأه الله جل وعلا من لدغة هذه الحية ببركة رسول الله، وبركة الصحبة.

فلما سار مع رسول الله قال: كنت أسير خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسير أمامه، ثم أسير في اليمين، ثم أسير في اليسار، ومن رآه يقول: ما للرجل لا يمشي في مكان واحد، وعلل ذلك الصديق بقوله: كنت أتذكر الطلب من الخلف فأمشي خلف رسول الله حتى أحمي ظهره، ثم أتذكر العدو من الأمام فأتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية له، وأتذكر العدو من اليمين أو من اليسار فأذهب يميناً ويساراً.

ولما دخل مع رسول الله المدينة كان الناس يحسبون أن أبا بكر هو رسول الله، فلما جاءت الشمس على رسول الله قام أبو بكر بردائه يظلله فعرفوا أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك كانت له المكانة العليا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يشاور أحداً قبل أن يشاور أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.

ففي أسرى بدر أول ما ابتدأ النبي بالمشورة ابتدأ بـ أبي بكر وكان الحق معه على تفصيل سنبينه فيما بعد، ولما سألوا عن أسارى بدر، فبرحمته ورفقه ورأفته بالأمة قال له: يا رسول الله! أرى أن نأخذ منهم الفدية لعل الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله.

وهذا بالضبط هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله).

فالكلام الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو بكر أحب عباد الله إلى رسول الله.

ولما أمّر رسول الله عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفي الجيش أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وهم من أشرف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتر عمرو بن العاص فقال: إن لي مكانة عند رسول الله، لأرجعن إليه فأسأله من أحب الناس إليه وهو متوقع أن يكون هو؛ لأنه أمره، وهذا يبين لك أن الإمامة أو الرياسة أو المقدمة لا تدل على الفضل، والخفاء كذلك لا يدل على الفضل، فهذا عمرو بن العاص بعد ثلاثة أشهر من إسلامه أُمر على أبي بكر وعلى عمر وعلى أبي عبيدة، فقال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ فقال الرسول: عائشة.

فقال: لست عن النساء أسأل، فقال: أبوها) فهذا إظهار بالإطلاق أن أحب الناس إلى رسول الله هو أبو بكر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يتمدح في صفات أبي بكر ويقول: (واساني بماله وأهله، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر).

رضي الله عنه وأرضاه.

ويبين لكم عظيم قدر أبي بكر عند رسول الله ما حدث من الدفاع المستميت من رسول الله لصاحبه، حيث إن عمر الفاروق -وعمر هو الذي قال فيه كثير من الصحابة: أعز الله الدين بإسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه- كانت بينه وبين أبي بكر مشادة، وكان أبو بكر شديداً فاشتد على عمر، ثم ذهب إليه ليستسمح منه فلم يسامحه، بل قال له: لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندم عمر فذهب إلى البيت فقال: أثَّم أبو بكر؟ -يعني: هنا أبو بكر؟ - قيل: لا.

فذهب أبو بكر رافعاً عن ثوبه حتى ظهرت ركبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى صاحبه: (أما هذا فقد غامر).

فدخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فقص على رسول الله ما كان بينه وبين عمر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وغضب، وظهر ذلك على وجهه، فلما جاء عمر إلى رسول الله اشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتمعر وجهه، حتى إن أبا بكر خشي على عمر من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثى على ركبتيه وقال: والله! يا رسول الله! كنت أنا أظلم، أنا أظلم يا رسول الله! لأنه الرفيق، ولأنه خير البشر بعد رسول الله، ورسول الله الذي علم الأمة أن ينزل الناس منازلهم، وأن كل صاحب فضل عليه أن يعرف لـ أبي بكر فضله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل عمر: (هلا تركتم لي صاحبي).

بشدة وحدة على عمر الفاروق وقال صلى الله عليه وسلم: (قد قلتم: كذبت، وقال: صدقت).

وهذا هو الفارق البعيد الذي جعل أبا بكر في الأعالي وجعلهم لا يسبقونه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وواساني بأهله وماله)، كأنه يقول: أنفق علي كل ماله، ثم قال: (سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، هلا تركتم لي صاحبي).

فلم ير بعد ذلك من أذية تقع في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

وأروع ما ضرب في ذلك: أن بعدها حدثت مشادة -كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي - بين أبي بكر وبين أحد الأنصار، فسب أبو بكر هذا الأنصاري، فقال الأنصاري لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: يغفر الله لك.

قال: اقتص مني.

قال: يغفر الله لك لا أقتص منك.

قال: اقتص مني، وإلا استعديت عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال بعض الأنصار وهم لا يفقهون من أبو بكر يستعدي عليك رسول الله وهو الذي سبك؟ والله! لنأتين معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصاري فقيهاً، فقال: اسكتوا، لا يعلم أبو بكر بكلامكم فيغضب، فيغضب رسول الله لغضب صاحبه؛ فيغضب الله لغضب رسوله فيهلك صاحبكم، فما رد على أبي بكر بعد ذلك من قول قط؛ لمكانة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.