للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منهجية عمر بن الخطاب العلمية]

كيف شرب عمر العلم وارتقى إلى هذا المرتقى الصعب؟ أقول: هناك منهجية اتخذها عمر علينا أن نأخذ بها والمنهجية موجودة حتى في السير، وهذه المنهجية التي استقى منها عمر علمه أجملها ابن القيم في قوله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كان عمر بن الخطاب مشربه الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة أو عمت مصيبة نظر في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيها الحل، أو لم يصل اجتهاده إلى الاستنباط العالي من الكتاب والسنة، نظر في اجتهاد أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر).

فكان يأخذ من الكتاب والسنة، أو من كلام أهل العلم، فإن لم يجد يجتهد رأيه رضي الله عنه وأرضاه، وإليك البيان الذي صدقه واقعاً لما طعن رضي الله عنه وضع خده على التراب ثم قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يقصد أبو بكر رضي الله عنه- وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هوخير مني، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على قوة مشرب عمر رضي الله عنه وأرضاه للعلم، وهنا قعدنا قاعدة في منهجية عمر في أخذ العلم، وهي: الكتاب والسنة، أو اجتهاد من سبقه الذي هو أعلم منه وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

أنا أقول: هذه القصة دليل على ما أقول، عندما قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف لم يستخلف من هو خير مني، فقال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف، فهو نظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أن الرسول لم يستخلف، ووجد أن أبا بكر قد استخلف، فهو قال: من أقدم أبو بكر أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يجوز أن يستخلف لأن أبا بكر سنته متبعة؛ لأنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتعداها أحد، ولذلك قال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف؛ لأنه يقدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وجعلها مشورة في الستة الذين وقع الاختيار عليهم.

كذلك من دلائل علم عمر وفقهه العالي أنه لا يتكلم إلا إذا وجد دليلاً ناصعاً صادعاً علم به، ولا يتكلف؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦]، وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، فكان يسير هو وعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فوجد حوضاً يريد الشرب والوضوء منه، فقال عمرو: يا هذا! أترد السباع هذا الحوض؟ فقال عمر: يا هذا! لا تجبه فإنه متكلف، وقد قال الله تعالى آمراً نبيه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦]، ويستدل الفقهاء بهذا الفعل من عمر على تقعيد قاعدة مهمة جداً (اليقين لا يزول بالشك) يعني: هو في شك من مرور السباع، ولكن عنده يقين على أن الماء الذي في الحوض ماء طاهر، فلا يزول هذا اليقين بالشك، فانظروا إلى فقه عمر رضي الله عنه وأرضاه! كذلك من فقهه البديع مع أحفاد القردة والخنازير أنه -انظروا إلى فقهه وهو ينظر إلى الشرع والقدر ويصدق الشرع والقدر- جاء إلى يهود خيبر، فأمر بإجلائهم، فجاءه كبيرهم، فقال: أنت تخالف أبا القاسم، فقد ضرب لنا عهداً على خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاطرهم على العمل، وأقرهم على الأرض فيعملون ويزرعون ولهم الشطر، فقال له عمر -كما في الصحيحين: أظننتني قد نسيت أن رسول الله قال: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك) يعني: تمشي بك بعيرك تخرج من هذه البلاد، قال: إنما كانت مزحة من أبي القاسم، فقال: خسئت وكذبت؛ فإن الرسول لا يقول إلا حقاً.

كذلك من فقهه البديع أنه قال له: أقركم ما أقركم الله جل وعلا، وقال: قد أقركم رسول الله، وأقركم أبو بكر، وشاء الله أن أجليكم.

فطبق الشرع على القدر بحديث آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وفي الحديث الآخر في مسند أحمد: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب).

فأول هذا الحديث بأن المشيئة هنا مشيئة كونية قدرية والفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية أن الكونية تكون فيما يحبه الله وما لا يحبه كمشيئة الله في خلق إبليس، وإبليس لا يحبه الله، وكمشيئة الله لعلو الكفرة على المسملين، وهذا لا يحبه الله جل وعلا، لكن شاءه كوناً لحكمة عظيمة، وربك حكيم خبير.

كذلك المشيئة الكونية لا بد أن تقع، فقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن أهل الكفر تكون لهم الدولة على أهل الإسلام لحكمة عظيمة عند الله جل وعلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لن تختم الدنيا حتى يعود الإسلام غريباً كما بدأ غريباً.

فـ عمر بن الخطاب نظر فوجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم، فقال: هذه مشيئة شرعية وطبقها، فوافقت المشيئة الكونية، فالأصل أن عمر رضي الله عنه وأرضاه من فقهه قال: هذه المشيئة ليست مشيئة كونية، هي مشيئة شرعية يقصد أنه أمر ونهي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، فأجلاهم رضي الله عنه وأرضاه.

كذلك من فقه عمر العالي أنه يسوس الناس بسياسة شرعية حتى يقطع دابر المعصية والتعدي على حدود الله، مثال ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على شرب الخمر ويجلد عليه أربعين، وأبو بكر جلد عليه أربعين، وصدر من خلافة عمر كان يجلد عليه أربعين، حتى جاءه علي فقال: إن الذي يشرب الخمر يهذي، فإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانين؛ فجلده ثمانين رضي الله عنه وأرضاه، فهذه سياسة شرعية حتى يحد من التعدي لحدود الله جل وعلا، واستنبط العلماء من هذا أن ولاة الأمور لهم أن يأمروا بأمر فيكون واجب السمع والطاعة إن كان تحت دائرة الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩]، وما قال: وأطيعوا أولي الأمر، فعلى المرء بالسمع والطاعة لأولي الأمر مقيداً بالمعروف: (إنها الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق).

كذلك في حكم الطلاق ثلاثاً، كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق طالق طالق في مجلس واحد، أو قال لها: أنت طالق بالثلاث، تحسب طلقة واحدة، وفي عصر أبي بكر تحسب طلقة واحدة، فجاء عمر وقال: اجترأ الناس على أمر كان لهم فيه سعة، لأمضينه عليهم، فجعل الطلاق ثلاثاً واقعاً وتبين منه بينونة كبرى، فهذه سياسة شرعية يسوس بها الناس؛ حتى تقام حدود الله جل وعلا.

إن مواقف عمر البطولية وقوته في ضرب الأعداء وقتاله مع رسول الله حفاظاً على حياته صلى الله عليه وسلم، وجوانب العظمة في سياسة عمر وعدله، والقصص البديعة التي تبين هذا العدل الذي قال فيه عامل الروم لما دخل وسأل عن أمير المؤمنين، فأشاروا إليه تحت شجرة، قال: أريد قصر أمير المؤمنين، قالوا: هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان يتوسد نعله تحت الشجرة؛ فقال: هذا أميركم؟! قالوا: نعم، هذا أميرنا، فقال: يا عمر حكمت فعدلت؛ فأمنت فنمت.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.