للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعامله مع المحاربين من أهل الكتاب]

ذكرنا أن أهل الكتاب ثلاثة أقسام، القسم الأول: قوم حاربوا دين الله جل وعلا، وهم حرب على أهل الإسلام، وأنفقوا ما لهم من أجل الصد عن سبيل الله، فهؤلاء كيف تعامل عمر معهم رضي الله عنه وأرضاه؟ هؤلاء لا ينفع معهم إلا السيئ، هؤلاء لا ينفع معهم إلا الشدة، ولا نقول: هذا مناف ومضاد لسماحة الإسلام، أو للدين الحنيف، أو للرأفة التي أمرنا الله جل وعلا أن نتعامل مع الناس بها، ونحن نعلم أن أحب القلوب عند الله ألينها وأطيبها وأرحمها بالناس، ولكن تجاه من كفر بالله ورسوله، وحارب الله ورسوله والذين آمنوا، يجب ألا يكون في قلب المسلم لهم رحمة ورأفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الرحيم الرءوف، ومع ذلك كان يقاتل أهل الكفر، وأهل الزيغ والبطلان، فـ عمر بن الخطاب شد وطأته على أهل الكفر، ونصر الله به الإسلام، وبه رفعت راية لا إله إلا الله ترفرف خفاقة عالية في أرض فارس، وفي الجبهة الغربية، وقد هاجم الروم، وهاجم الفرس.

أما نحو المشرق فمعارك طاحنة حدثت بين المسلمين -تحت راية عمر بن الخطاب - وبين أهل فارس، وأقوى هذه المعارك هي معركة القادسية، فهي المعركة الفاصلة بين راية الحق وراية الباطل، فهدم الله عرش كسرى على يد عمر بن الخطاب، حتى إن كنوز كسرى كلها جاءت إلى عمر بن الخطاب، فلما نظر إليها بكى وقال: قوم يؤدون هذه الكنوز إنهم لأمناء! فقال علي بن أبي طالب بعد ما بكى عمر: يا أمير المؤمنين! كنت عدلاً فكانوا كذلك، وكنت أميناً فكانوا كذلك، رضي الله عنهم أجمعين، ففي هذه المعركة كانوا قد تشاوروا أن يؤمر عليهم عمر، لعل الله أن يفتح عليهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: ابق هنا يا أمير المؤمنين، إن حدث لك شيء فجع المسلمون بك، فأمر عليهم من ترى وتختار، فقال عمر: إذاً فاختار أنت، قال: ما هو إلا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، ولذلك قال علي بن أبي طالب: ما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أباه وأمه لأحد إلا لـ سعد بن أبي وقاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (هذا خالي فليرني أحدكم من خاله) يعني: افتخاراً بهذا الخال، فقام عمر وكتب إليه: لا يغرنك قول الناس: هذا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك طاعتك، واعلم أنك تواجه قوماً أصحاب عدة وعتاد، وبينكم وبينهم الطاعة والمعصية، هم يعصون الله جل وعلا، فإن عصيتم الله استويتم في المعصية، وكانت الغلبة للأقوى، وهم الأقوى عدة وعتاداً، وإن التمست ما عند الله جل وعلا فإنما عند الله لا يؤخذ إلا بطاعته، فأنتم لا تقاتلون القوم بعدة ولا عتاد، وإنما تقاتلونهم بالإيمان، فأخذ سعد بن أبي وقاص بهذه النصيحة وجعلها نصب عينيه، ثم قال له: أرسل إليه بالوفود، لعل الله جل وعلا يهديه على يدك، فاختار أكثر من نقيب حتى تكون سفارة بليغة تذهب إلى رستم قائد الفرس، لعل الله جل وعلا يهدي قلبه إلى الإسلام، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فبعث إلى رستم، ربعي بن عامر، وما أروع ما قاله ربعي! ذكر أهل العلم أن رستم كان عنده الملك الكثير من الفرش الوفير والذهب، والقوارير والفضة، وكانت له السطوة على العرب والكلمة الكبرى عليهم، وكانت دولته أكبر قوة في العالم، فدخل ربعي ساخراً من هذه القوة والفخامة والقدرة، دخل عليهم ومعه سيف صغير ورمحه وبغلته، دخل يمزق برمحه هذه الفرش الوفيرة، وهم يتعجبون من جراءته، فمنعوه فقال لـ رستم: طلبتموني، فإن أردتموني دخلت بما أنا عليه وإلا رجعت أدراجي، فقال: اتركوه، فدخل بعزة الإسلام، وبقوة المسلم، ثم قطع وسادة وربط بغلته، ودخل بالسيف، فنظروا إليه وضحكوا وقالوا: ما هذا السيف؟! سيف صغير ماذا تفعل به؟ فنظر إليهم مزدرياً قولهم مبيناً قوة وثبات وجأش المسلمين، وقال لهم: سيف صغير أتقدم به في نحور الأعداء ولا أفر ولا أتأخر، فخاف القوم، ثم دخل على رستم، فقال له رستم وهو متعجب من حاله: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقال بعزة المسلم: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، كلمات توضع على الجبين، وتحفر على الصدور بماء الذهب، كلمات من رجل يلبس الرداء الرث، يسير ومعه السيف الصغير، لا عدة ولا عتاد، لكنها قوة كمنت في القلب، إنها قوة الإيمان والعقيدة.

قال: نحن عباد لله، أهم عزة وأشرف عزة هي العبودية لله جل وعلا، لا أطأطئ رأسي ولا أتذلل إلا لربي جل وعلا، ولا أنصر إلا دين الله جل وعلا، قال: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج عباد الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، لك إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، فلك ما لنا وعليك ما علينا، ولك نصرتنا في الدين، وتخرج وترجع إلى بلادك أميراً على أصحابك، قال: ما الثانية؟ قال: تعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، قال: وإن لم تكن هذه؟ قال: المنابذة، السيف بيننا وبينك، ثم بعدما رحل قام رستم فقال: أرأيتم ما يقول الرجل! تعجباً مما فعل وقال، فازدروا فعله وقوله، فدخل عليهم المغيرة فقال لهم مثلما قال ربعي، فعلم رستم أن هؤلاء القوم ليسوا بالهينين، بل لهم قوة، هذه القوة كامنة في الإيمان الذي يحملونه في قلوبهم.

وحدثت الكرامات لهذا الجيش بفضل الله جل وعلا، فهم الطائفة المؤمنة التي تقاتل من أجل دين الله جل وعلا، وترفع راية لا إله إلا الله، ومن هذه الكرامات ما حدث معهم عند عبور البحيرة فقد كانت بينهم وبين جيش رستم بحيرة، فأخذ سعد يفكر كيف نصل إلى القوم؟ فقال لـ سلمان الفارسي: أنت الذي خططت للنبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فانظر كيف نصل إلى هؤلاء؟ فقال: دعني أنظر، فدخل يبحث في القوم ليلاً، فوجد أصحاب الرايات الحقة قياماً يتلون كتاب الله جل وعلا، ويذكرون الله ويستغفرونه في السحر، ووجدهم فرساناً في النهار، كما قال عامل الروم لملك الروم: رأيتهم رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، فهم يأخذون بالسبب المادي مع وجود السبب الشرعي الذي هو الأصل الأصيل لهذه الأمة، فلما نظر سلمان إلى هؤلاء ورأى حالهم هذه قال لـ سعد: والله لقد رأيت هؤلاء رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، وقد رأيت قوم موسى أدنى من هؤلاء، وقد أمر الله البحر فانشق من أجل قوم موسى، وأنتم والله خير من قوم موسى، ويصنع الله لكم أفضل مما صنع لقوم موسى، فتوكل على الله بإذن الله، وشق البحر، فاقتنع سعد بكلام سلمان، وعلم أن الكرامات تنزل على أولياء الله الذين ينصرونه، وينصرون دينه، فقام سعد وركب فرسه، ثم نزل إلى البحيرة باسم الله، فكأنه يمشي على أرض صلبة، فقد جعل الله جل وعلا البحر كأنه أرض صلبة، ودخل الجيش وراء سعد حتى دخلوا على جيش كسرى وقتلوهم شر قتلة، وقتلوا رستم، وأعلى الله الدين بهؤلاء الذين نصروه، فنصرهم الله مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧]، هذا شرط شرطه الله جل وعلا، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧]، ولذا فإن الله جمع كل كنوز كسرى للمسلمين عندما صدقوه ونصروه، ودخل بها الساعي إلى حجر الكعبة وقال: رجحت راية لا إله إلا الله على أرض فارس، هذا أول مشوار عمر وفتوحاته مع أهل الكفر الذين أنفقوا أموالهم صداً عن سبيل الله جل وعلا.

أما في الجهة الغربية -نحو الشام- فإن الله فتح عليه الشام بما فيها القدس، وكذلك مصر، فبعد أن نصر الله المسلمين في أجنادين بقيادة عمرو بن العاص، ظهروا على بيت المقدس وحاصروها، وكان على بيت المقدس رجل من الروم لقبه أرطبون الروم، وكان داهية الروم، فقال عمر قولته المشهورة -كما قال أبو بكر: لأقطعن وساوس الشيطان عن الروم بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -قال عمر: لأضربن أرطبون الروم بأرطبون العرب، وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فحاصر المدينة وتم حصار القدس، لكن أرطبون الروم بعث إلى عمرو بن العاص أو إلى أبي عبيدة -اختلفت الروايات- وقال: هذه المدينة لا تفتح إلا برجل واحد صفته عندنا الخليفة عمر بن الخطاب، فاستشار عمر الناس، فقالوا له: لا بد أن تذهب لعل الله يفتح على يديك هذه المدينة، فذهب عمر -الفاروق أمير المؤمنين الذي ملكه الله مشارق الأرض ومغاربها- على بعير واحد فقط هو ومولاه، يتناوبان على البعير، نوبة يمشي فيها عمر ويركب المولى، ونوبة يمشي فيها المولى ويركب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، حتى وصلا إلى بيت المقدس وكانت النوبة في المشي والأخذ بخطام البعير لـ عمر بن الخطاب، والمولى هو الذي يركب، فاستاء أبو عبيدة بن الجراح لما رأى هذا من عمر بن